محسن عبد اللطيف حسن وتداعيات تُعيد للرومانسية خاتمها المفقود
تحت الوسادة؛
أدغدغُ الظلامَ،
أرتشفُ زرقة الصخور؛
أثبتُ شراسة الوقت
على أشياءٍ ضيّعت أسماءها..
بهدوء ومن دون جلبة، يكتب ويمضي، وكأنه يكتبُ خلسةً، أو أنه يكتبُ وحسب، وليس من الضرورة أن يلفت انتباه أحد، وهو على هذا الإيقاع؛ فقد أصدر ما يتجاوز الـ(12) كتاباً في القصة والشعر، وإن كان الأغلب فيها كتابة القصيدة بما يتجاوز سبع مجموعاتٍ شعرية.. اعتمد خلالها القصائد القصيرة، وحاول فيها قول الفكرة بأكبر قدرٍ من الشاعرية التي تفتح أمام القارئ آفاقاً واسعة من عالم الجمال، وصوراً رومانسية مملوءة بالمشاعر الإنسانية المرهفة التي تختلطُ فيها ابتسامات الأطفال ومشاعر الحب الصادقة مع حنان الأمومة والطبيعة الساحرة.. يقول:
افتح صدري لفراشة؛
فتدخل بشغبِ غنائها الربيعي،
أما حين أفتح صدري لحبيبتي؛
فلا يدخل إلا ضجيج رحيلها..
يقود الشاعر نفسه إلى المناطق الحسية في عالم الإيحاء الذي تستنزله فيه المرأة وهي حاضرة غائبة، حسيّة وغير ملموسة، معجونة بالرغبات.. كما يلجأُ حسن إليها في التعبير عن حاجته إلى الإشباع الروحي، وربما ما من شيءٍ يُغذي الروح كـ«الحبّ».. يقول الشاعر والناقد جودت حسن في قصيدة مُحسن: في النص الذي يكتبه محسن استخدامٌ بريءٌ للغة إلى حدِّ أنه يشوش براءتها حقاً.. إن نص الشاعر في كتابه هذا بحاجةٍ إلى التفاتٍ مُهم إلى ما تعنيه الجملة الشعرية بالنسبة لما قبلها وما بعدها.. هناك تداعيات تُعيد للرومانسية خاتمها المفقود.. وهو منذ زمنٍ طويل يستلهم روح الجمال حاملاً قيثارة (أيولون) التي غايته النائية عن إنسان الحضارة الحالي.
إن هذه الأحاسيس والصور الشعرية وضعها الشاعر بأسلوبٍ جمالي عبر محاكاته للطبيعة من خلال اللوحة التشكيلية الفنية الموزعة بحسية اللون أيضاً، وفي ديوان «هديل المنافي» –على سبيل المثال- يضعنا أمام عالمٍ جميلٍ مملوءٍ بالضجيج وفوضوية اللغة المستحبة من خلال تخيلاته العميقة والمؤثرة في الحالات النفسية والوجودية المترامية عبر التجليات الداخلية الممنطقة في نسيجٍ معاصر يتحدى صاحبها الخوف على مستقبل الشعر، ويعقد مصالحة مع الماضي، ولكن حلمه يحمل بعداً آخر في الشجون وتدفق الكلمات، فالتجليات الروحية القلقة تتسعُ فيها مغامراته الشعرية على شكل شظايا فيها شيءٍ من روح الصفصاف كحالة رومانسية وشيء من عقل الشمس «إيروس» الرائع.
هل أغلقتِ نافذتكِ،
وارتديتِ الغابة؟!
الغابةُ مُعلقةٌ بجيوبك الجائعة
ما تزالُ تحت دمكِ المسفوح..
دمكِ يتهاطل في حومةِ المكان
انتفاضة الموتى
إنها قصائد جديدة تحتاج إلى غواص ماهر لأسرارها العميقة, وما تخفيه قراراتها البعيدة من دلالات تبدو قريبة من الإبهام حيناً، ومن الإيهام أكثر الأحيان، وهو هنا يُوشح القصيدة بالغموض المحبب الذي يدفع المتلقي لبذل مزيد من الجهد من أجل الإمساك بعنق مهرة القصيدة الحديثة.. حيث تأتي رموزه ودلالاته الفنيّة كأقرب إلى مناخات السريالية، وربما هذه الأخيرة من أبرز الملامح التي تتجلى قي نص مُحسن عبد اللطيف، وربما هنا وجدت قصيدته ضالتّها في الحريّة من القيود والانعتاق من التحديد، حيثُ عبّر عن وعي فردي مُستقل داخل الجماعة.
ومُحسن عبد اللطيف حسن مولع بمشاركة الشعراء آرائهم في نصه الشعري، ثمة ما يُغوي الشاعر هنا لإدلاء زميله الشاعر الآخر في قراءة نصه، وتسجيل تلك القراءة، وتدوينها في فاتحة المجموعة الشعرية، وها هو الشاعر خالد أبو خالد يقول عن مجموعته «وحدك تقرأين رحيلي»: إنها نصوص على مستوى من الشعرية العالية، وهي نصوص لا تُغادرُ همومها إلى هموم أخرى خارج الموت والحرية، والحب، والجوع الإنساني الواقعي والمجازي، وهو يتعامل مع هذه الهموم؛ تعامل من عاناها وخبرها، فغدت جزء الكل في الكتابة لديه..
ولابد هنا من الإشارة إلى ما في المجموعات الشعرية لمحسن عبد اللطيف حسن من مواطن الجمال، واستقراء ما في قصائده، وفي قراءة الدواوين تحصيل ما يريده القارئ, وفيه من المخزون الكافي لتجربته، بل هي طاقة متوالدة في نصوصه المشغول عليها برؤية واقعية واعية فيها فضاء جديد نقي وجمالي مكثف من التعابير والكلمات المعجونة بالطين والماء والهواء والأنثى التي لا تغادره يوماً، بل هي قائمة في ذاكرته، وهي لا تنفصل عنه.. حضورها ذو معانٍ روحية وحسية وجسدية، وتبقى لغة الروح في المخاطبة عبر تجليات حاضرة في صفاء الذات، وهي علاقة جدلية قائمة على المكان والزمان، والعلاقة مع المرأة الأزلية المستمرة في العشق والهموم والتغني بالطبيعة البشرية والتواصل العاطفي الفطري.. هي الحاضرة والغائبة في معظم قصائده.. باحثاً عن المرأة في فضاء اللذة الأبدية والوجود، وهو لا يدخل في تفصيل الصورة بطريقة إغرائية أو مثيرة، وإنما يدخل بطريقة تُعبّر عن ذوقٍ رفيعٍ.
الثلجُ جوعٌ
ينسكبُ على الشرفات
إلى أقصى المسافة،
ترسمُ الطرقاتُ حوافر الخيول
لامرأة الليل..
لامرأة الليل تقطفُ الزرقة،
وتضعها في سلتها الفارغة