مازحها الطبيب الستّينيُّ الظريف وهو يطلب منها أن تستريح على سرير الفحص: -أنت محظوظة لأن ابنتك اصطحبتك إلى المشفى، فرأت أن تقدّم له توضيحاً: -إنها كنَّتي وهي بمثابة ابنتي! –حظكِ أوفر بهذه الصحبة! قال لها وهو يتقصّى مرضهَا عبر الأسئلة، ثم يتابع وهو يبدل أدوات الفحص: -سافر الأبناء والأحفاد وبقيتُ وحيداً وقد لا أجد، إذا مرضتُ من يغلي لي كأس زهورات أو يعطيني قرصَ دواء في موهن الليل! حاذاه الطبيب الشاب المتدرب: -ماذا أفعل، أنا تلميذك، إذا دهمك عارضٌ صحيٌّ لا سمح الله؟ سأردُّ لك الجميل وأكون إلى جوارك! أنت معلمي وأبي!
كانت ممتلئة بخوف وقلق يفوقان المرض الذي ألمّ بها، لأنها اطّلعت بالمصادفة على كتاب لثلاثة مؤلفين: “مايكل أوترمان”، “ريتشارد هيل”، “بول ويلسون”، عنوانه “محو العراق” وهو فوق إحصاء الضحايا وخسائر الثروات المادية وسجن “أبو غريب” والتهجير والمذابح الجماعية، فما وراء كل هذه “المرئيات” كان الهدفُ اقتلاعَ عراق وزرعَ آخر! والاقتلاع هو المحو، وليس المحوَ العمراني بتدمير البيوت وقتل النساء والأطفال والرجال، بل بإنهاء الطقوس الاجتماعية ومناهج الحياة التي تقوم على التضامن وحسن الجوار وتعايش المذاهب والإثنيات، ليتفشى الحقد والارتياب والشك والتقوقع وعدم الانتماء، ولأن العراق بجوار القلب، قلبها، كانت التداعيات تعصف بذهنها، بعد عشر سنوات من الزلزال الإجرامي الذي حلّ في سورية وأخذ معه الأعزاء إما شهداء أو مخطوفين أو مغتربين، وحين وصولها إلى بيتها بعد تهجير طويل، كان عليها أن تعيش شهوراً لتعي أن الجيران الذين عاشت بينهم كأنهم أسرة واحدة قد تغيروا، وبعضهم لم تسمع عنه خبراً على الإطلاق، وعليها أن تعيد بناء علاقات جديدة كأنها حلّت في بلد آخر غريبةً بين غرباء، فلا جارٌ يهرع إليها لإصلاح صنبور بكل طواعية، ولا جارة تقرع الباب وبيدها ركوة القهوة تلغي بينهما الطوابق والجدران! وأدركت أن انتهاء الحرب ليس في هزيمة الإرهابيين وتوقف القذائف العشوائية وليالي الرعب الطويلة، بل في إعادة الوئام والأمان والسكينة والتجمعات التي يستند فيها كلُّ ظهرٍ متعب على جدارِ قريبٍ ليس قرابة الدم بل قرابة المحبة والثقة! ولم يطل الوقت حتى قرع بابها جارٌ لا تعرفه، أرسله إليها صديقٌ تعرفت إليه خلال إقامتها المؤقتة في إحدى الضواحي، يسألها خدمات لا تستطيعها! وشيئاً فشيئاً استردّت الأمان عبر دخولها في الدائرة الواسعة التي جعلت جاراً بعيداً يُدخل في حياتها جاراً قريباً في السّكَن، وهي تشعر أن الانتصار النهائي هو هنا! في ترميم الفجوات الإنسانية، وعدم السقوط في هوّات الفردانية التي لا قاع لها!
اطمأنت على الطبيب حين خاطبه تلميذُه الشاب أنه سيكون إلى جواره حين الحاجة، قبل أن تطمئن على نفسها محوطةً بعناية المقربين. رصيدٌ ثمين لا تقوى أعتى قوة في العالم على تبديده وانتزاعه لأنه محصّن في القلوب والعادات والتقاليد الموروثة آلاف السنين، وغير قابلٍ للتدوير في البنوك والمصارف المتوحشة في إدارة المال والعملات على دماء البشر ومآسيهم واعتبارهم فَرْقَ عملة لا قيمة لها!