جُزئيّ وكلّيّ

في بهو الانتظار في المشفى تبحث عن جدار تستند إليه ريثما تستطيع إحصاء عدد الموجودين، ومتى سيغادر بعضهم إلى العيادات المتخصصة، وفي قاع وعيها أملٌ بمقعد، يغادره صاحبه ويتركه لها، لكن الأعداد تزداد، والأجساد كلها بطيئة الحركة والوجوه نسيت أن تحافظ على اتساقها فتركت للألم أن يقلّصها ويفردها حسب تموجاته الفالتة من الضّبط، وعلى وجعها الذي ثار فجأة من قروحٍ استعصت على العلاج منذ شهور بحيث أصبح هذا المشفى الحلَّ الأخير، تزاحمت أوجاع أهلِ “البهو” وشكاوى خافتة من مسنٍّ يعاني ألماً صدرياً، وأم طفلٍ شاحبٍ سكنَ في حضنها وكفّ عن الأنين، وصبية نسيت كلّ مساحيق التجميل وعقصت شعرها بمشبك رخيص وقبضت على معدتها تهدئها، وشاب جاء، كما يبدو، بملابس المنزل بعد أن تناول منقوع عشبة برية وصفها له مسنٌّ عانى من ألم الأمعاء لكنها لم تُجْدِ نفعاً في الشفاء والعافية! وفي هذا المشهد القاتم عبَر شبّانٌ وصبايا، بملابس قاتمة أيضاً، واصطحبوا بعض المرضى بحيوية لافتة إلى بعض العيادات المفتوحة التي حُجب داخلها بحاجزٍ معدني مشدَّر بقماش أخضر سميك! ومع ذلك لم تفرغ مقاعد الانتظار! نسيت أبسط قواعد “الطّرح” الحسابية وهي تحاول فهمَ كيف غادر الكثير من المرضى إلى العيادات وبقي البهو عالماً مزدحماً بكل هؤلاء المعذبين الذين لا منفذَ لهم إلى مكان آخر فيه فرح وأمل وضوء وأحلام، وهي منهم، تستأنف حياتها على هذه الشاكلة إلى مدى غير منظور!
في الشارع تجابهها الجموع التي تنتظر المواصلات بعد الظهيرة، الكل يريد العودة إلى البيت حيث تتفرق الهموم ويُطلب للأعصاب بعض الرّخي من شدة كانت في العمل أو في التسوّق أو في الصّدامات البشرية اليومية، والوجوه يعتصرها شيء مختلف عما رأته في بهو المشفى، هنا الغضب والتذمر ورغبة العراك إلى منتهاه والحركة البدنية المستنفدة في الرياضات القاسية! ومرة أخرى تتفكك في ذهنها عمليات الحساب البسيطة: هذا العديد الذي يتزايد كيف سيكون على مقاعد وسائل النقل القليلة؟ وتشعر أن الحياة كلها زحام وأنها عاجزة عن إيجاد مكان صغير لها في هذا الزحام، وتفاجأ بدمعة من عينها، لا تدري مناسبة خروجها في هذه اللحظة قرب أمٍّ تحمل طفلاً بيمناها وأكياساً بيسراها، وطالبةٍ شاحبة تبدل مكان حقيبتها الثقيلة على كتفها كل لحظة وهي تدمدم بصوت غير مسموع بكلمات تشبه الصلاة، وبعد انكشاف الدمعة ترى الباب مفتوحاً أمام عينها! باب الحافلة الفارغة من الركاب والسائق لا يلتفت وراءه لأنه يضع كوب الشاي أمامه في وضع آمن!
في البيت تضع الأدوية دون أن تتفقّدها، الأَوْلى أن تتفقد نفسها وموقعها بعد أن اختبرت المرور بكل تلك “الحيوات” القاتمة وبطفولة مستردّة تضع ركوة على الموقد لتقدم لنفسها كوب كاكاو نسيت أنه على الرفّ منذ شهور! وهي الآن في جزيرتها الصغيرة تنتظر هبوب نسائم وهمس أمواج يحملها إلى وسنٍ وردي! –هكذا قالت لنفسها -:سيتداخل الجزئيُّ في الكلي! إنها الحياة، لا تثبّتنا في موقع ولا موضع!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار