سُبحة فارطة

في مناسبة ما .. تلقيتُها هدية!
في أيّ عام، ما المناسبة؟ قطعاً لن أتذكر لأن الأيام تداخلت بأحداثها بعد الحرب على سورية وطوّحت بالكثير من التفاصيل البعيدة عن تمسُّكنا بالأحياء المقرّبين وخوفنا عليهم، ومن فقدانهم، لكنها كانت شديدةَ الحضور بسبب جمال صناعتها ودقّة تماثُل كريّاتها الخزفية الزرقاء، التي كُتب على كل واحدةٍ منها اسمٌ من أسماء الله الحسنى! كانت سُبحةً بتسعٍ وتسعين حبّة، كلُّ واحدة بحجم بيضة صغيرة مزخرفة برسومات نباتية خضراء محيطة بـ “الواحد” “القهار” “المهيْمِن” “العَفوّ” “الكريم” “الودود” “الرحمن” “الرحيم” …. ودُهشت يومها لماذا اختارت صديقتي هذه الهدية بالذات بعد سفرٍ طويل حلّت في أثنائه بدولة آسيوية مشهورة بالصناعات اليدوية، وحين وضعَت أمامي الحقيبة القماشية وسمعت ارتطام الحبّات الخزفية فيها، دفعني الفضول لرؤية ما فيها، قالت بفخر: -أحببتها جداً وهي معلقة على حائط المتجر وقلت لنفسي إنك ستطيلين النظر إلى الحروف العربية المكتوبة بطريقة لا تمتّ بصلة إلى مدارس الخطّ التي نعرفها!
ما حصل بعد ذلك، أن السُّبحة عُلّقت على الجدار وأخذت مكان لوحة كبيرة، وكانت تتحدث في صمتها، بالألوان والمعاني وجمال الصّنع، واستعادة قصص غير مكتملة عن ارتباط السبحة بالحياة الروحية للشعوب، وعن تطور مواد صناعتها، من متواضعة كالطينٍ ونوى ثمار الزيتون إلى حجارة كريمة ومعادن ثمينة حتى انتقلت من المعابد إلى القصور ومن المتصوفة إلى الأثرياء! وكنت كلما ذهبت أتفقد البيت أثناء التهجير أتذكر الأسى على لسان جاري الصحفي، الذي قضى شهيداً فيما بعد، وأنه يتفجع على السُّبحات الثمينة التي بقيت محجوزة ببيته، وأخطف نظرةً إلى السبحة المدلاة على الجدار من دون أن ألحظ أن الفراغ يتسع حولها!
يبست أشجار الحدائق الصغيرة المحاصرة بنيران الإرهابيين، وماتت زروع الشرفات وغاب صخب الأطفال من الحيّ، حتى إذا أعاد الجيش العربي السوري الحياة إلى كل موات، انتبهت إلى عدم وجود السُّبحة على الجدار! الخيط الذي جمع الحبّات سنواتٍ طويلة كان من الجلد! والجلد جفّ وهو مثقل بالخزف، ثم تقلّص وكشّ حتى ما عاد قادراً على احتمال وزنٍ مهما خفّ، فتساقطت الحبّات تحته كأنها في بركة مسوّرة، وبقي خيط الجلد وحيداً متخففاً من حِمْله بعد أن اكتمل سقوط التّسع وتسعين حبّة، عائدةً إلى صندوق خشبي تنتظر ما يجمعها بعد انفراط! ولكم انفرطت علاقات و “أطواقٌ” وأحداثٌ وذكريات، وكلها تحتاج إلى تجديد خيوط كانت تجمعها، ولعل هذه الخيوط تكون أقوى على عاديات الزمن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار