معرض فني!

كان باب القاعة موارباً على عتبة داخلية مستديرة والزقاق معتماً قليلاً، حين تلبث كأنه يستوضح صوتاً خفيضاً في الداخل يقول شيئاً ما على غير عجل! أطل بحذر فرأى ثلاثة رجال تحولت نظراتهم من فضول إلى ترحيب! هذا المكان، حتى دون اللوحات التي عُلقت على جدرانه، هو متحف للفن اشتغلت فيه مئات الأيدي، ولطالما لاحق تفاصيله بعينٍ نهمة، تريد التغلغل في الخط والظل وحتى مأوى الغبار! يقف وسط القاعة مسربلاً بالحرج والعرق، برغم أن الأصدقاء الثلاثة انصرفوا تماماً إلى ترتيب اللوحات ومفاضلة أمكنتها! وحين تنفس نفساً عميقاً أدرك أنه لم يزُر يوماً معرض فن تشكيلي، ولم يهتمّ قطّ بالمقارنات بين فنانين أساتذة، وحتى في منزله الأول لم يكن للفنون الجميلة إلا أبسط المعالجات البدائية، ودروس الرسم كانت تقطيع وقت بأدوات ترمى بلا أسى وذهبت كأنها غسيل أيدٍ تلوثت بطين حديقة!
كانت عيون النساء اللواتي رسمهن الفنان أشبه بمناجم الماس المشعة، وعلى رأس إحداهن عشٌّ مليء بالبيض يحتاج دفئاً كي تفرّخَ طيور أو أفكارٌ أو فراشات، وعلى درب ريفي كانت القرية البعيدة متداخلة البيوت كالخلايا بينما الطفل السائر بعيداً عنها، يدير ظهره إليها ويرمي باتجاهها طيوراً خضراء واسعة الأجنحة!
كان الفنان صاحب المعرض، عرفه من ذوبانه المطلق وهو يلمس أُطرَ اللوحات المعروضة، متواضعَ الشكل والملابس والحركة، أنيساً مثل جار محبّ فتح باب بيته وبيده كأس شاي، سارع إلى تقديمه ضيافةً سخية، بينما يفكّر الزائر الطارئ أنه غمره بالأساطير والحكايات وأخذه على بساط ريح فكانت كل هذه الموانئ وكل هذه الجروف السحرية والقمم والمنحدرات والتجارب اللونية الأخاذة… عصفة ريح أخرجته من سحر المكان، حين عمد أحد الثلاثة إلى وضع لصاقة على طرف لوحة سفلي فيها سعر بيعها، وهو سعر خيالي بالنسبة إليه.
كان الزقاق أكثر إضاءة بعد زوال شمس الأصيل، وكل روحه مستيقظة على أسماء مرت عليه بمناسبة أو بأخرى! من كان ذاك الفنان المعلم وأين يمكن أن يرى لوحاته؟ وكيف يستطيع أن يبدأ من جديد مع ما كان يقيم خلف الجدران العالية طوال هذا الزمان؟ الطراوة تدهم نفسه برغم كل الهموم التي يعيشها، وهو يتخفف حتى من صدمة سعر اللوحة الذي لا يعنيه في عالم مفارقات هذه الدنيا، لأن أمواج الألوان كانت تحمله إلى عالم آخر لكن بهوية أخرى وهوى آخر.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار