الطاقة… ثم الطاقة… ثم الطاقة
لا يوجد بلد في عالم اليوم لا يعاني من أزمة في مصادر الطاقة، سواء بسبب نقص في (القدرة التوليدية) أو بسبب ارتفاع أسعار النفط والذي يعتبر حتى الآن من أهم بنود كلف توليد الطاقة التقليدية. كما لم تعد الطوابير على محطات الوقود حكراً على دمشق أو بيروت بل يمكن أن نراها في لندن أو ليفربول وحتى باريس وبرلين.
ترتبط الأزمة الحالية بعدة عوامل أهمها التعافي الاقتصادي العالمي بعد تفشي جائحة كورونا والتي رفعت الطلب على منتجات الطاقة بشكل عام والغاز الطبيعي المسال بشكل خاص إلى أرقام غير مسبوقة.
هذه الزيادة في الطلب أدت إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بنسبة 400% منذ بداية العام، ورغم أن دولة مثل الصين التي تعتبر أكبر مستهلك عالمي للغاز قد ضاعفت حجم مستورداتها إلا أنها لم تستطع العودة إلى مخزونها المعتاد قبل جائحة كورونا بسبب انخفاض الإنتاج.
في أوروبا أدى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي المسال إلى تراجع في الإنتاج الصناعي، ويتوقع الخبراء أن يصل هذا التراجع إلى 50% من القدرة الإنتاجية للمصانع الأوروبية، ما يهدد بنقص في كمية السلع المعروضة وانفجار غير منطقي بالأسعار.
لقد بدأت بوادر الأزمة تظهر في منطقة اليورو التي سجلت نسبة تضخم تصل إلى 3.4% وهي أعلى نسبة تسجل منذ الانهيار المالي عام 2008 عندما بلغت نسبة التضخم 3.6%. في ألمانيا سجل مؤشر الأسعار في شهر أيلول ارتفاعاً بنسبة 4.1% وهي أعلى نسبة ارتفاع منذ ثلاثين عاماً، في الوقت نفسه رفعت فرنسا سعر الغاز المسال للمواطنين بنسبة 12.6%. هذا الارتفاع في أسعار الغاز سيدفع الكثير من الشركات إلى استبداله بالنفط لضمان كفاية الإمدادات مما يزيد الضغط على النفط المعروض في السوق العالمية.
على الجانب الآخر من الكوكب، تعاني البرازيل من انخفاض القدرة على توليد الطاقة الكهرومائية بسبب انخفاض جريان نهر بارنا، ما سيدفعها إلى البحث عن بدائل نفطية لإدامة عجلة الإنتاج في مصانعها. حسب خبراء نفطيين فإن هذه العوامل سترفع الحاجة إلى النفط الخام بمعدل 600– 700 ألف برميل يومياً.
رغم وعود الكثير من الدول وفي مقدمتهم السعودية برفع إنتاجها من النفط لتجنب نقص المعروض إلا أن ارتفاعات متتالية على أسعار النفط حتى نهاية الربع الأول من عام 2022 ما زالت الاحتمال الأكبر.
إن جميع القطاعات مرشحة للمعاناة من أزمة الطاقة وعلى الأخص: الصناعات الكيماوية، وصناعة الورق والسيراميك والأسمدة والزجاج. كما أن الصناعات التقنية وخاصة صناعة الرقائق بدأت معاناتها تظهر في الأسواق وخاصة في مجال صناعة السيارات. تبقى الأزمة التي تثير الرعب في الدول النامية بشكل خاص، مرتبطة بنقص توريد الأسمدة الزراعية وارتفاع كلفتها، مما يعني زيادة أسعار المنتوجات الزراعية، سواء بسبب ارتفاع التكاليف أو عدم قدرة المزارعين في البلدان الفقيرة على زراعة أراضيهم. هذا الارتفاع في أسعار المنتوجات الزراعية يمكن أن يفاقم أزمة الغذاء التي بدأت تقرع أبواب الدول الفقيرة ومخيمات اللاجئين في العالم.
*** الطاقة المتجددة:
في ظل الأزمة الحالية، يتصاعد التركيز على الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة، في معظم دول العالم. فقد أعلنت بريطانيا عن انطلاق المرحلة الرابعة من مشروعها للطاقة المتجددة بتقديم دعم مالي مقداره 265 مليون جنيه إسترليني (336 مليون دولار) سنوياً للشركات التي تستثمر في مجال إنتاج الطاقة البديلة من الرياح البحرية والتي تنتج حوالي 11 غيغاوات سنوياً.
وكعادتها تتقدم الصين بسرعة نحو المركز الأول في إنتاج الطاقة البديلة خاصة من الرياح البحرية. بعد نجاح محدود لمشروع إنتاج الطاقة من الرياح البرية في أطراف صحراء جوبي عام 2009، أطلقت الصين مشروع لإنتاج الطاقة من الرياح البحرية والذي يهدف إلى رفع إنتاجها من هذا المصدر إلى 52 غيغاوات بحلول عام 2030. لقد مثلت الخطة الخمسية الـ 12 للحزب الشيوعي الصيني التي أقرت عام 2011 نقطة الانطلاق لواحد من أكبر مشاريع إنتاج الطاقة البديلة في التاريخ. تهدف خطة الصين إلى إنتاج 50% من حاجتها للطاقة الكهربائية من مصادر بديلة بحلول عام 2050.
من جانب آخر يتصاعد الاستثمار في مجال الهيدروجين الأخضر كمصدر للطاقة البديلة، ويقدر المختصون أن العالم سوف يحتاج إلى استثمارات حجمها 15 تريليون دولار حتى عام 2050، ليصبح الاقتصاد العالمي معتمدا على الهيدروجين الأخضر.
في هذا المجال يمكننا ملاحظة وجود دول عربية بين كبار المستثمرين في الهيدروجين الأخضر، تتقدمهم السعودية باستثمار مستهدف مقداره 5 مليارات دولار، وخطة للوصول إلى حالة صفرية من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2060 وباستثمار مقداره 187 مليار دولار.
في نفس السياق تنشط دول مثل الإمارات والمغرب وعُمان بشراكات أوروبية خاصة مع ألمانيا.
في منطقتنا ما زالت مساهمة الطاقة البديلة في إجمالي إنتاج الطاقة متواضعة، حيث تبلغ حوالي ١٥٪ في الأردن وتكاد تكون معدومة في العراق وسورية ولبنان بسبب التكلفة العالية للاستثمار في هذا المجال. تقدم مصر نموذجاً رائداً في مجال إنتاج الطاقة بواسطة الألواح الشمسية، وقد أعلنت أنها تسعى لإنتاج 20% من الطاقة التي تحتاجها من مصادر بديلة بحلول نهاية عام 2022.
في ظل التعاون العربي في مجال الطاقة، والذي بدأت بوادره خلال الشهر الماضي، تبدو الحاجة ملحة لإنشاء شركة عربية للاستثمار في مجالات الطاقة البديلة. أظهرت الأزمات الماضية أن أمن الطاقة يحتل موقعاً متقدماً في بنية الأمن الاقتصادي، وأن الاعتماد على الذات في مجال الطاقة أصبح مستلزماً أساسياً لحماية السيادة الوطنية. إن مشروع عربي للطاقة البديلة سيشكل رافعة مهمة في مجال سعي الدول العربية للتخلص من التدخلات الاستعمارية، ورافداً مهماً من روافد التنمية المستدامة. فهل نرى هذا المشروع في المدى المنظور؟
كاتب من الأردن