يكدُّ في البحث عن دورة متقدّمة في مهارات الكمبيوتر كأنه طالبٌ في الثّانوية حريصٌ على التفوق الباهر!, ليس من شروط العمل الوظيفيّ أن ينال شهادةً في هذه الدورات لأنه يمارس عمله التعليمي منذ سنوات، لكنه يعي أن الزمن تغير وأنه سيكون في مواجهة جيلٍ متطلِّب كثير الأسئلة، وحين كان طالباً رأى معلّمه مكتمل المعارف والحكمة، ومرجعيّةً لكل سؤال، لهذا لم يعد بمقدوره أن يقف في الصفّ اليوم بين طلبته وهو في مهبّ ريح أسئلتهم يتلجلج أمام فضولهم، وتلك الدورات الموسمية التي كانت وزارة التربية تقيمها في الماضي لاطلاع المعلم على وسائل تعليمية حديثة، صارت أبطأ من الزمن المتسارع، كما أنه ليس في زمن المعلّم «الموسوعة» الذي تذكره الأدبيات معلّماً للأجيال، حين يغدو كثيرٌ من طلبته شعراء وكتاباً وفنانين وقادة، لهذا عليه أن يرتقي بوسائله ويواصل التعلُّم مع التعليم.!
حدّد مواعيد مرضاه الكثُر في العيادة فألغاها صباحاً وأرجأها إلى المساء، ليراجع إدارة الجامعة الخاصة ذات السمعة الحسنة التي دعته ليكون أستاذاً زائراً فيها، وحين حاورته رئيسةُ الجامعة المتحمّسة لوجوده في الهيئة التدريسية بسبب اختصاصه النادر، أخبرته بالشروط التي تحتم عليه نيلَ شهادة جديدة من الجامعة الرسمية، وهذا يقتضي أن يكون مشرفاً على طلبة دراسات عليا لمدة زمنية، ويقدّم تقييمه لأعمالهم… و …و…ما جعله يتلبّث قليلاً لدراسة الشّروط التي أعادته إلى زمن الدراسة الذي تخطاه منذ سنوات وحرّره من المقاعد والمخابر وعلامات الأساتذة وأطلق يده في عمله، تقيّمه أعداد المرضى المتدفقين على عيادته بسبب الثقة والرّضى! يبتسم حين تنهي رئيسة الجامعة كل ما لديها: -كأنني في يوم كتابة رغباتي على ورقة المفاضلة حين بلغت الثامنة عشرة من عمري! –إنها ضرورات زمن المعارف الغزيرة وتنافس الخبرات العالية ونحن بحاجتك! وهو ابن هذا العصر الذي لم يعد يحتفي كثيراً بشجرة لها حدٌّ في النمو، وغير قابلة للتطعيم والتنشيط والتلاؤم مع تغيرات الطقس! يوقّع العقد ويغادر وهو يتتبّع في خياله الطرقات التي قطعها أيام زمان إلى الجامعة، ناسياً مواعيد الطعام والنوم ومشاركة الأعياد والحفلات العائلية لأنها كانت تعوقه عن «الارتقاء» الذي رسمه لنفسه, وها هو يجد نفسه مرة أخرى على الطريق نفسه بحكم الضرورة التي يجب ألا يتخلّف عنها!.
امرأة، سيدة، أمّ، جدة، تستيقظ في منتصف العمر وهي تشعر بمأساة الأمية, تلتحق بدورات محو الأمية الذميمة وتواصل، ما بعد معرفة كتابة اسمها، كلَّ مراحل التعليم، حتى تبلغ الشهادة الجامعية مع الثمانين من العمر! لماذا هذا العناء، ما مبتغاه؟ ما ثمنه من العمر والطاقة ومدّخرات النفس والمادة؟, إنها حكاية الإنسان في هذا الكون الواسع! حكاية من لا يرضيه الظلّ والعتمة والسكون في مكان صغير غير مرئيّ وغير لائق وغير باعثٍ على الرضا عن الذات!.