نزِّهْ جميلَك
لعلّ الأبيات التالية المنسوبة لأسياد أهل الحكمة وأجملِ الجود والخُلق والذوق، لعلّها تفتح آفاقاً للإفادة من أهل التجارب في الشدائد:
لَنقلُ الصخرِ من قللِ الجبالِ أحَبُّ إليَّ من مننِ الرجالِ
بلوتُ الناسَ قرناً بعد قرنٍ ولم أرَ مثلَ مختالٍ بمالِ
وذقتُ مرارةَ الأشياءِ طُرّاَ فما طعمٌ أمرُّ من السؤالِ
ولم أرَ في الخطوب أشدَّ هولاً وأصعبَ من مقالاتِ الرجالِ
تشكِّلُ المنن ثقلاً هائلاً على كواهل الرجال، وتترك جروحاً عميقة الأغوار في النفوس الحساسة المرهفة، ولعلَّ ذلك ما جعل الحكماء يستهجنونها، إذ إنَّ المنّة بالمعروف تعكس آثاراً سلبية على الفرد والمجتمع، ويبدي الخوارزمي سخطه الشديد على الذي قدّم له الجميل ثم تبعه بمنّة مقيتة، متمنياً لو أنه لم يقبل منه عطاءَهُ، يقول بأسلوب ساخر يحمل من الندم والمرارة ما يحمل:
يا مُبطلاً فعلَ الجميلِ بمّنَّةٍ أسخطْتني مِن بعد ما أرْضيتني
يا ليت كفَّك لم تسامحني به أو ليتني جانبتُ ما أوليْتَني
ويؤكد في موضعٍ آخر أن المذمة هي خلاصةُ حصاد من أتبع معروفه بالمنِّ به، على عكس ذي السماح الذي يقطف من هنيّ سماحته الرضا، ولكن المنافسة غير الشريفة التي هي وليدة الحسد تؤدي إلى نفور الأصدقاء وقلتهم، كذا حال من تجتمع فيه أسباب الفؤاد فيقع في الحب وتعتريه الصبابة والشوق، فيكون لائمُه – والحال هذه – هو نفسه من يستحقّ اللوم واقعاً عليه بشكلٍ أشد:
ومن سامحَ الأيام يرضى حياتَهُ ومن منَّ بالمعروف عاد مُذمَّما
ومن نافسَ الإخوان قلَّ صديقُهُ ومن لامَ صبَّاً في الهوى، كان ألوما
ويحث رشيد سليم خوري (القروي) على درء قبيح الأفعال عن جميلها، وذلك بتنزيه الأفعال الحسنة وإبعاد المنّة عنها، فالمنُّ بالعطاء لا يأتي إلّا بالمهانة والمذلّة، وأخطر ما في ذلك أنه يجعل روابط الصداقة أو حتى الروابط الإنسانية هشة واهية، وربما يقطعها، يقول:
نزِّهْ جميلكَ عن قبيحِ المَنِّ إنْ حاولتَ في رُتبِ الكرامِ سموَّا
كم حوَّلَ المَنُّ الجميلَ إهانةً والحمدَ ذمّاً، والصديقَ عدوّا