اعتذار لعلم الجمال

في حوار مع صديق، سألته عن رأيه فيما أكتب، فأجابني بصراحة فجّة أنه لا يتابع، وأنه قد توقف عن قراءة المقالات والتحليلات منذ سنوات.

بسؤاله عن السبب أجاب: “لأنها تسد النفس”.. حروب وأزمات ومجاعات ومؤامرات، لقد جعلتم العالم مكاناً كئيباً لا مكان فيه للجمال.

رجعت لما كتبته خلال العام الماضي فوجدت أن صديقي محق فيما قاله، فلا شيء يسر الخاطر، أو يبعدنا ولو للحظات عن واقع يطحننا كل يوم، نعرفه بكل تفاصيله لكننا نختار أن نعود إليه تحليلاً وتقييماً حتى أرهقناه وأرهقنا أنفسنا به.

للجمال فلسفة لم تغب عن تاريخ الإنسان، بل ارتبطت به ارتباطاً وثيقاً. قبل أن يعرف الكتابة عبّر إنسان الكهف عن علاقته بمحيطه من خلال رسوم بدائية على جدار كهفه، انتقلت هذه اللوحات لتشكل في الألف الثامنة قبل الميلاد أول تماثيل جصية عثر عليها في منطقة عين غزال في العاصمة الأردنية عمّان.

عندما ارتقى العقل البشري ليخترع الكتابة، لم يجد وسيلة أمامه إلا الصور والأشكال، فكانت الكتابة المسمارية القادمة من بلاد الرافدين التي ظهرت سنة 3000 ق.م، وتطورت على يد السوريين في رأس شمرا (400 ق.م) لتكون من أوائل أبجديات العالم ولتختصر الرموز المسمارية من 600 إلى 40 رمزاً دونت نصوصاً اقتصادية وأدبية.

بلغ فن صناعة التماثيل ذروته الجمالية عند الإغريق، الذين صنعوا لآلهتهم تماثيل حفلت بتفاصيل دقيقة وتعابير جمالية تشير إلى مكانة تلك الآلهة ودورها، فلا يمكنك إلا ملاحظة القوة والعظمة في تماثيل زيوس كبير الآلهة، والرقة والعطف في تماثيل أبولو إله الحب، والجمال في تماثيل أفروديت. أما العرب، وإن كانوا لم يعنوا بالنحت لأسباب دينية، إلا أنهم برعوا في فن الأرابيسك والزخرفة والعمارة، وقدموا للعام تحفاً في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة.

يعد جامع قرطبة واحداً من كنوز إسبانيا التراثية الاثني عشر، بوشر ببنائه في عهد الخليفة عبد الرحمن الأول سنة 784، ولكنه توسع كثيراً حتى بلغت مساحته في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر 22500 متر مربع ويحمل سقفه 800 عمود مزخرفة بأجمل الزخارف والمشغولات الإسلامية.

أما صحن المسجد، أو ما يعرف بصحن النارنج، فيعتبر قطعة مميزة من فنون العمارة الإسلامية، وهو محاط بسور تتخلله سبع بوابات وتستقر المئذنة في زاويته الشمالية. والمكان مزروع بأشجار النارنج ولهذا السبب سميّ بصحن النارنج.

لا يقتصر الجمال على فن النحت، فلو عدنا إلى معايير النهضة في أي عصر لوجدناها تقاس بالفن والأدب والرسم والغناء أكثر من قياسها بالتطور في مجال العلوم البحتة. لا يمكننا الحديث عن نهضة أوروبا من دون الوقوف عند كتابات دانتي أليغري، ومسرحيات شكسبير، وقصائد سبنسر، وقصص سمرست موم.

كما لا يمكننا تخطي لوحات دافنشي ورافاييل ومايكل أنجلو، أو صدح الأورغن والغناء الكورالي في الكنائس. كما لا يمكننا الحديث عن نهضة العرب والمسلمين من دون المرور على أبي تمام، والبحتري، وأبي العلاء المعري، أو التغاضي عن موسيقا إبراهيم واسحق الموصلي في بغداد، وزرياب في الأندلس.

يبدو الجمال للحظة وكأنه محصور بالبحث عن التسلية واللهو، ما يرسخ الاعتقاد بأنه عصي على البحث العلمي الجاد القائم على الفكر المنظم والقوانين العلمية الصارمة.

فالبحث عن التسلية يستلزم في معظم الأحيان تجاوز ما هو منظم وروتيني وكسر القواعد السائدة لصالح حدس أو إحساس بمُتخيل آتٍ أجمل من الواقع.

يغيب عن أصحاب هذا الاعتقاد أن كسر القواعد بحثاً عن الجمال يحرر العقل ويذهب به بعيداً عن المساحات المحدودة المفروضة عليه. الفن حر في غاياته ووسائله لذلك يكون الطريق التي يتبعها العقل ليقدم للبشرية إبداعات جديدة.

والفن إذ يقوم بهذا الدور لا يتناقض مع العقل، بل ينسجم انسجاماً تاماً مع طبيعة العقل البشري التواقة إلى التحرر من أسر الواقع، والارتقاء في سلم الوعي.

لا يقتصر هذا التوق على العلوم البحتة والاختراعات العلمية الجديدة، بل يتعداها إلى العلوم الإنسانية كالدين والفلسفة وعلم الاجتماع.

هذا ما دفع الصوفيين إلى التعبير عن تدينهم وتعلقهم بالله من خلال الغناء والرقص، وما دفع الكنيسة في عصر النهضة الأوروبية إلى اعتماد الغناء الكورالي كوسيلة للصلاة.

في الوقت نفسه نجد فيلسوفاً مثل الفارابي يلمع في عالم الموسيقا فيضع كتابه “صناعة علم الموسيقا” وينسب إليه مؤرخون اختراع آلة القانون بشكلها الحالي.

نجد الاهتمام نفسه بالفن والجمال عند ابن رشد الذي قال “الجمال ليس صفة متأصلة في الأشياء، بل هو نتيجة إدراك وتحليل” وهو يلتقي بذلك مع الكثير من الفلاسفة الذين اعتبروا الجمال مرتبط بوعي الإنسان وقدرته على الإدراك.

في أوروبا اجتذبت فلسفة الفن والجمال أعظم الفلاسفة من أمثال هيغل، الذي رأى أن الفن خطوة سابقة في طريق العقل نحو الحقيقة.. وماركس الذي اعتبر الفن تعبيراً عن إيديولوجيا الطبقة المسيطرة، مؤسساً لعلم الجمال الماركسي، الذي توسع على يد بليخانوف، ولاحقاً لينين نفسه.

في الجانب المقابل اهتم رواد العلوم البحتة بالجمال والفن، فها هو عالم البصريات العربي الحسن بن الهيثم يقول: “الجمال خاصية موضوعية تملكها الأشياء لكن بدرجات متفاوتة”.

وفي العصر الحديث كتب اينشتاين عن جمال المعادلات الرياضية وأوضح أنه بعد بلوغ مستوى عال من المهارة التقنية ينحو كل من العلم والفن ليتحدا في الشكل والمرونة الجمالية.

عندما نقيّم عمل المهندس، لا نفعل ذلك بناء على معرفته بقوانين الرياضيات ولكن بجمال التصميم، واستخدام الضوء، ودقة الإنجاز. التقييم نفسه نتبعه مع النجار والصانع والطبيب. فجمال المُنتَج دلالة حرفة الصانع وإتقانه لعمله.

في عالم اليوم يختفي الجمال من حياتنا بالتدريج، ليس بفعل الحروب والأزمات فحسب، ولكن تحت ركام الطمع والسوق والتسويق، فيتحول الجمال إلى سلعة، وتُستبدل قيمته المعرفية والإنسانية بقيمة مادية مبتذلة.

ما أحوجنا اليوم إلى استعادة الجمال في حياتنا، لعلنا ذات يوم نقيم مهرجاناً، أو عيداً للجمال، لا تُعرض فيه البضائع بل الإبداعات البشرية في المجالات الفنية والعلمية.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار