كيف سقينا الفولاذ..؟

في روايته «كيف سقينا الفولاذ» التي نُشرت عام 1936، يتابع نيقولاي أوستروفسكي تشكّل وعي شخصيته الرئيسة بافل كورتشاجين الذي عاش حياة البؤس والشقاء في روسيا القيصرية.

جاء وعيه لذاته مستمداً من ظروف مجتمعه، فتحول الشاب العامل إلى مقاتل وشكّل وعياً ثورياً اشتراكياً، وتحول إلى بطل مقدام يقدس العمل الحزبي والجماعي.

في مطلع سبعينيات القرن الماضي كنا على عتبة مغادرة الطفولة نحو الشباب، وكان وعينا بالعالم وذواتنا آخذاً بالتشكل بناء على ظروف مجتمعاتنا.

أستطيع أن أزعم أن كل الأطفال العرب الذين نشؤوا في تلك الفترة اصطدموا بجدار اليأس والإحباط الذي تركته هزيمة حزيران 1967، وما تلاها من وفاة الزعيم جمال عبد الناصر.

كل شيء حولنا كان مهزوماً، وسيطرت حالة من اللامبالاة على لغة الناس وتعليقاتها التي امتلأت بالمرارة ولوم الذات، حتى كبار السن الذين أحضروا معهم مفاتيح بيوتهم من فلسطين، حولوا تلك المفاتيح إلى لوحات علقوها على جدران غرفهم في المخيمات.

صباح 6 تشرين 1973، انهار جدار اليأس، وتدفق سيل من الفرح والابتسامات على وجوه الجميع، كانوا يردون على تساؤلاتنا بتبرم، مؤكدين انشغالهم بأمور أهم.

خرج البيان العسكري «رقم1» حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، لكننا كأطفال لم نستطع الحصول على التفاصيل إلا بعد غياب شمس ذلك النهار.

اجتمع الرجال حول الراديو يتحدثون عن البيانات العسكرية التي صدرت تباعاً، ما زلت أذكر لحظة إذاعة البيان «رقم 7» الذي أعلن عبور الجيش المصري خط بارليف، يومها صرخ أحدهم: الجيش المصري دخل سيناء، فرد آخر: والجيش السوري وصل بحيرة طبريا.

أصبح التحلق حول المذياع عملاً يستمر النهار بطوله، أما المساء فكان اجتماعاً لتحليل ما صدر من بيانات وتوقعات للتحركات القادمة.

في حيّنا كان يسكن ضابط متقاعد تولى مهمة شرح الخطط والإستراتيجيات التي يتبعها الجيشان المصري والسوري، من دون أن يخلو الأمر من اقتراحات كانت برأيه الأفضل لحسم المعركة.

دور الأطفال كان التنقل بين الجلسات، فذاك يُحضر خبراً جديداً من منزله إلى الأشخاص المتحلقين حول الراديو في الدكان، وذاك يطير بخبر من الدكان إلى المنزل.

أكثر الأخبار إثارة كان خبر دخول جيوش عربية للمشاركة في المعركة على جبهات القتال. كان تحليل ذلك الخبر حصرياً لدى البعثيين، الذين لم يترددوا في الإعلان عن هويتهم السياسية رغم العواقب الأمنية التي يمكن أن تترتب على هذا الإعلان.

لم تكن حرب تشرين التحريرية حدثاً عابراً في تشكيل وعي جيلنا. لقد انتقلنا من حالة الاستسلام والدعاء، إلى حالة من الشعور بالمواجهة والأمل.. نعم لقد تبخرت صورة «الجيش الذي لا يقهر» من أذهاننا، فقد رأينا ذلك الجيش يُهزم ويندحر.

بعيداً عن التحليلات التي انطلقت بعد انقشاع غبار الحرب، خاصة ما يتعلق بالجبهة المصرية، كانت حرب تشرين لحظة تشكل وعينا بأن النصر والهزيمة من صنع أيدينا. عبقرية لحظة انطلاق المعركة ونتائجها الأولية شحنتنا بإمكانية تحقيق النصر في أي لحظة.

لم تقتصر نتائج الحرب على الإنجازات العسكرية، فقد انطلقت بعدها حملة تحديث وبناء لسورية. تحولت البلاد إلى ورشة عمل في جميع المجالات، انخرط الجميع في عملية البناء والتحديث، وأصبح كل سوري صورة عن بافل كورتشاجين، مناضلاً مقداماً منخرطاً في العمل الجماعي لبناء وطنه. بالنسبة لنا كشباب كان أكثر المناظر إثارة، مشاهدة الدبابات السورية في طريقنا من عمان إلى دمشق، كنا نلوح لها، ونطلب من السائق التوقف لالتقاط الصور إلى جانبها، الأمر الذي لم يتحقق ولا مرة. كانت تلك الدبابات تنتمي إلى وعينا الذي شكلته حرب تشرين.

على المستوى الشخصي، وبعد شهور قليلة من الحرب، كانت المرة الأولى التي تسمح لي فيها والدتي بالذهاب إلى السينما مع أصدقائي لحضور فيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي». حضرناه عدة مرات وكنا نعيد تمثيل مشاهده بعد مغادرة السينما.

كان الإسرائيلي في تلك التمثيلية جباناً رعديداً يبكي خائفاً من وصول الجيوش العربية، عندما كبرت وقرأت مذكرات بعض قادة جيش العدو في تلك الحرب وجدت أن الصورة التي رسمناها في التمثيلية لم تكن بعيدة جداً عن الواقع.

في المنزل كانت العائلة تتجمع أمام التلفزيون لمشاهدة أفلام على التلفزيون السوري، أشهرها كان «عواء الذئب» والذي حفظنا جملة بطله أبو عمر (صلاح قصاص): “ألف حبل مشنقة ولا يقولوا بو عمر خاين يا خديجة”.

أما فيلم «العريس» فكانت كل مرة يقول فيها الأب (صلاح قصاص): «حسن استشهد؟.. الحمد لله» تستدعي بكاء والدتي ودعاءها بالصبر لأمه.

مرت السنوات وتراكم التراب فوق ذكرياتنا.. غرقنا في أحداث حياتنا اليومية، وأصبحت ذكرى حرب تشرين ومضة تلمع في وسط واقع مظلم، لكنها لا تلبث أن تغيب.

مع بداية الحرب على سورية عدنا نقرأ عن شهداء هذه الحرب. كثير من هؤلاء الأبطال كانوا من أبطال حرب تشرين التحريرية. انخرطوا في العمل وعملوا على بناء جيش حديث، طوروا أنظمة صاروخية، وانخرطوا في المعارك من جديد ليرتقوا شهداء كما أرادوا ذات يوم.

قرأت قصص هؤلاء الشهداء مراراً وتكراراً وفي كل مرة كانت تجتاحني تلك الرعشة وذلك الشعور بالفخر الذي أحسست به صباح السادس من تشرين الأول 1973.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار