يُدَّخَر!

كان يومَ ثلاثاء! طالت وقفتُها بين المتجمِّعين على باب المدرسة بغرض الحصول على بطاقتها «الذكيّة»، قبل أن تكتشف عبثيّة الانتظار، حيث كانت البوابة الحديدية موصدة، وإذا فُتحت، بقيت موارِبة وخرج منها رجلٌ أو امرأة بحراسة رجلٍ لا طاقة لديه للردّ على أحدٍ من المتجمّعين الذين يحقنهم فتح الباب بأملٍ ما! إذ يعود الباب إلى صمته وجموده والأسماع تتلقّف ممن خرج كلمات مقتضبة: -الشّبكة توقفت أكثر من ساعة! وعفوياً تسمع أصواتاً من دون أن ترى وجوه أصحابها: -أحضر إلى هنا منذ أسبوع! مرة قالوا لي تأخرت وعليك أن تسجّل دوراً في السادسة والنصف صباحاً! –جئت بالأوراق لكنني اكتشفت أن إحداها مرّت عليها أكثرُ من ثلاثة أشهر فذهبت وجدّدتها! تتلاشى الأصوات في طنينٍ متصاعدٍ يصيب أذنيها بعد صعود شمس الضّحى الحارة، وتتذكر أن عليها أن تشتري خبزاً! لماذا الخبز بالذات؟ لأنها ستجوع حتماً في موعد الغداء وهو موعدٌ يصعب تأجيلُه كما أجّلتْ موعدَ طبيب الأسنان هذا الصّباح من أجل البطاقة! تتلفّت حولها فترى التجمعات الصّغيرة على الأرصفة، في فيء مداخل الأبنية، حيث لا غرفة انتظار ولا مقاعد مهما كانت قليلة ومخلّعة!
في الساعة الثانية والنصف تدرك أن بقاءها عبثٌ لا طائل منه، فلا المراجعون المحظوظون في الداخل خرجوا ولا الشبكة عادت إلى نشاطها، ولا أمل في تخطي العتبة إلى الداخل بوجود الحارس الضخم العنيد لذلك تغادر الساحة وهي تعِد نفسها بالعودة غداً وتأخذ طريقها إلى الفرن! هنا جموعٌ أيضاً لها نفس الملامح ونفس الأزياء، لكنها أكثر نشاطاً بدنياً وصياحاً وتذمّراً وانزياحاً وتبديلَ أمكنة، وحين تخرج من بين المناكب وتلتقط نفَساً من فراغٍ بعيد عن الرصيف المزدحم، تكتشف وهي تردّ على مكالمة أن السّاعة بلغت الرابعة والربع! وعلى الرابعة والنصف سيكون في منزلها عامل التمديدات الذي سيعالج تسرّب الماء إلى بيت جيرانها، هو الذي يتدلل على القدوم منذ عشرين يوماً ما أجبرها على إيقاف استخدام نصف صنابير الماء، احتياطاً حتى قدومه! تنتظر وسيلة مواصلات عبثاً وهي تتوسل ألا يأتي لأنه سيتذرع بغيابها عشرين يوماً آخر! هاتف على غير انتظار تجيب عليه، يفوّت عليها الحافلة، لأنها لا تردّ على الاتصالات في وسائط النقل: -نستطيع أن نلتقي هذا المساء؟ -ليتنا نستطيع، لا وقت عندي! تغلق الهاتف وقد عصف بها الامتعاض لأن الصديقة ستغضب وتعبّر عن حردها وانزعاجها لكل من يعرفهما!

تسير منهكةً ملتمسةً فيْءَ الجدران وهي تفكّر: ما يعوزها هو الوقت، وليس المال والعافية والصّداقات! في زمنٍ ما، ادّخرَت المال تحسُّباً للأيام، وادَّخرت الصحة بالغذاء والراحة تحسباً للتعب، أما هذا العتيّ العصيّ المسمّى الوقت فقد أدركت أنه لا يُدّخر، وأنه مخبوءٌ في الظروف التي تصنعها الحياة من دون أن تبالي بالفرادة والإرادة وما تملكه من مجاذيف وهي تبحر في كل الاتجاهات!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار