“طنبر المازوت”
عندما كنت أعيش في دمشق طالباً في كلية الطب، كانت تنتشر في شوراع المدينة ظاهرة “طنبر المازوت” وهو صهريج صغير يجره حيوان، ويتجول صاحبه به على الأحياء منادياً “مازوت”، فيحصل السكان على حاجتهم من دون الاضطرار للذهاب إلى محطات الوقود. لو قال لي أحدهم يومها إن المازوت سيكون شعار حرب نخوضها في المستقبل، لغلبني الضحك وعدم التصديق.
في الحرب التي تخوضها أمتنا ضد العدو الأميركي، لم يدّخر العدو وسيلة عسكرية أو اقتصادية إلا واستخدمها في محاولة لكسر شوكتنا وفرض إرادته علينا. وحرب النفط والكهرباء في لبنان ليست الأولى في هذا المجال، فقد سبقتها محاولة أخرى تجاه سورية، شاركت فيها القوات العسكرية الأميركية، والحصار الاقتصادي والعمليات الإرهابية ضد المنشآت النفطية وآخرها ما حدث قبل عدة أسابيع. ما يثير الحيرة أن العدو يلجأ إلى الوسيلة نفسها مراراً وتكراراً رغم فشلها؟
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بنت الولايات المتحدة الأميركية إستراتيجيتها على الهيمنة على العالم مستخدمة قوتها العسكرية أولاً وثقلها الاقتصادي ثانياً. ولتحقيق هذا الهدف كان لا بد من تدمير أي قوة تقف في وجه هذه الإستراتيجية الأميركية.
عند فشل القوة العسكرية الغاشمة، تلجأ الولايات المتحدة إلى سلاح الاقتصاد والحروب بالوكالة. الهدف ليس تحقيق النصر ولكن التدمير والمزيد من التدمير لإمكانيات البلاد المستهدفة، ومنطقتنا مستهدفة عبر تاريخها الحديث.
عانت منطقتنا من نكسة مشروعها القومي التحرري مرتين؛ الأولى عام 1948 عندما زُرع الكيان الصهيوني في جسد الأمة ليجعل تقسيمها أمراً واقعاً. لقد ترتبت على هذه النكسة مجموعة متتالية من الهزائم كانت آخرها هزيمة 1967. النكسة الثانية كانت في عام 1974 بعد الخيانة الساداتية بإيقاف إطلاق النار في حرب تشرين 1973. كانت لحظة دخول الوفد المصري إلى محادثات «خيمة الكيلو 101» نقطة الانطلاق لمسار انحداري متسارع طال كل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية في بلادنا.
في أيار من عام 2000 لاحت في الأفق بوادر نهوض عربي جديد. كان منظر قوات العدو وهي تلوذ بالفرار من الجنوب اللبناني تحت وطأة ضربات المقاومة الوطنية اللبنانية المدعومة من سورية، إحياء للأمل في قلب كل مواطن عربي وطني حر. أما معسكر العدو وحلفاؤه فرأى أن ما حدث لم يكن سوى لحظة أو جولة عابرة، وأن الأمور لا تلبث أن تعود إلى سابق عهدها.
جاءت حرب تموز 2006 لتكون الإعلان الحقيقي عن ولادة مشروع تحرري جديد، عنوانه “محور المقاومة”.
خضنا المعركة تلو الأخرى، صمدنا وقدمنا التضحيات، تراجعنا وتقدمنا واستطعنا على أكثر من جبهة كسر شوكة المشروع الاستعماري، وفرضنا على العدو في أكثر من مناسبة التراجع، وأرسينا معادلات ردع جعلته يعيد حساباته أكثر من مرة قبل التفكير بكسرها.
هذه الإنجازات دفعت البعض إلى التعجل بإعلان النصر النهائي على العدو، وذلك بمناسبة ومن دون مناسبة، والحماس للحديث عن هزيمة نكراء للعدو. هذا الحماس إلى جانب أنه لا يعبر عن الحقيقة، فإنه يطغى على مجموعة من الحقائق التي لا بد من إدراكها إذا أردنا لمشروعنا الوطني التحرري الحديث النجاح.
أولاً: إن عدونا قوي، بل قوي جداً، ومتفوق علينا عسكرياً واقتصادياً بما لا يُقاس. هذه الحقيقة بقدر ما تعطي صمودنا بعداً بطولياً يصل حد الملحمة، بقدر ما تفرض علينا اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تضمن قدرتنا على الاستمرار في الصمود. إن الحديث عن هزيمة العدو منفردين يقع ضمن التفكير الرغائبي، فنحن بحاجة اليوم إلى توسيع معسكر الحلفاء، وتعزيز التعاون القائم على تحقيق مصالح جميع الأطراف. الدعم السياسي والعسكري الذي يقدمه هذا المعسكر ضروري جداً لاستمرار صمود محور المقاومة وتعزيز قدرته على تحقيق الانجازات. يخبرنا التاريخ أنه في كل مرة امتلكت فيها الشعوب الإرادة للصمود اندحر العدو، لأن الحرب بالنسبة له استثمار، وكلما طال أمدها تحولت أرباحها إلى خسائر.
ثانياً: ما زلنا بعيدين عن الانجاز الأهم الكفيل بإنجاح مشروعنا القومي، المقصود هنا فك التبعية الاقتصادية مع العدو. ما زال سعر الدولار يتحكم باقتصادنا، وبوارج العدو وقوانينه تتحكم بتدفق البضائع عبر حدودنا. ما زلنا نحاول التغلب على مشاكلنا الاقتصادية بوسائل العدو فنلجأ إلى الخصخصة، وسحب الدولة من دورها الاجتماعي، ونرتكز على ما يسمى رأس المال الوطني، والقروض والمنح، والدول المانحة. لقد آن الأوان لإنشاء منظمة اقتصادية تضم دول محور المقاومة وحلفائها تضع الأسس لتكامل اقتصادي يفوّت الفرصة على الهيمنة الاقتصادية الاستعمارية.
لقد جاءت بواخر النفط الإيرانية لتقدم لنا مثالاً بسيطاً عمّا يمكن أن تحققه الإرادة والشراكة الاقتصادية بين دول محور المقاومة. وكان تفريغ السفن الإيرانية في الموانئ السورية ونقلها بصهاريج سورية رسالة مفادها أن هذا المحور متماسك في القرار والتنفيذ والاستعداد لتحمل العواقب. لقد أسقط بيد المستعمر، ولم يجد، بعد فشل حملته الإعلامية، من سبيل سوى التراجع وكسر قواعد ” قانون قيصر”، والسماح بمرور الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر سورية، والعودة للحديث عن إطلاق محادثات الاتفاق النووي في إيران.
معركة صغيرة خاضها “طنبر المازوت” لكنها رسالة لكل من يقف في محور المقاومة… لنكسر قيصرهم وحصارهم. مصيرنا اليوم بأيدينا، وسوف تلعننا الأجيال إن أضعنا الفرصة مرة أخرى.
كاتب من الأردن