عن الأسرى والآسرين..
لا شك أن الكتابة في موضوع الأسرى الفلسطينيين الستة، الذين تمكنوا من تحرير أنفسهم من سجن جلبوع في فلسطين المحتلة، قد استهوت كل هاوٍ أو محترف كتابة. لذلك امتلأت صفحات الفضائيات والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي بالتحليلات التي وصلت حد نظرية المؤامرة، والتهليلات التي وصلت حد إعلان الانتصار على العدو.
فإذا تأخرت عن اللحاق بركب الكتاب، ستجد نفسك حائراً، فكل ما يمكن قوله قد قيل.
بعد إعادة اعتقال الأسرى على ثلاث دفعات، هبت موجة جديدة من الكتابات والتحليلات وانقسم الكتاب بين من عاد إلى معزوفة المؤسسات الإنسانية والدولية، وتحميل سلطات الاحتلال المسؤولية عن سلامة الأسرى، وآخرين رأوا أن هذه العملية سوف تتكرر لأن الأسرى الفلسطينيين يمتلكون الإرادة، والإيمان بقضيتهم، وأن ما حدث، بغض النظر عن نتائجه، سيشد أزرهم ويدفعهم للمحاولة مرة بعد أخرى.
مع ميلي للرأي الثاني جزئياً ، إلا أنني لم أستطع تجنب سؤال دار في ذهني ؛ ماذا يعني تحرير ستة أسرى لأنفسهم، إذا كان أكثر من 5000 سجين فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال؟.. لكي لا يفهم السؤال بشكل خاطئ أعيد صياغته؛ متى يمكننا اعتبار تحرير ولو أسير واحد خطوة في طريق الانتصار؟
لا يمكن اعتبار تحرير أي أسير عربي لدى الاحتلال نصراً على هذا الاحتلال، إلا إذا جاء في سياق مشروع تحرر وطني واضح المعالم. وإذا لم يكن هذا المشروع جاهزاً، أو قيد الإنجاز، فإن عملية التحرير تبقى عملاً بطولياً فردياً، يمنح المجد لمن نفذه. وإذا كان بحجم ما قام به الأسرى الفلسطينيون، فإنه يحولهم إلى أيقونات للصمود والإرادة، لكنه بالتأكيد لن يؤثر على مسار الصراع مع العدو.
ما تبقى لنا من عملية تحرير الأسرى لأنفسهم، بعد زوال معركة التشكيك والتمجيد، هو دروس نتعلمها للمستقبل، فنتحرى مواطن الضعف لنصلحها، ونبني على مواطن القوة ونعززها.
الدرس الأول؛ غياب التواصل بين الأسرى وقيادات فصائل المقاومة. كل ما حدث منذ اللحظة الأولى لعملية التحرير وحتى إعادة أسر آخر أسيرين يشير إلى انعدام التواصل بين الأسرى وفصائلهم. كما غاب عن المشهد أي عمل للفصائل من شأنه أن يعيق عملية البحث ويشتت جهود جيش الاحتلال .
لو امتلك الأسرى المحررون الحد الأدنى من التواصل والدعم لتمكنوا من سلوك وجهات أخرى لا تؤدي إلى اعتقالهم. حتى ما توقعته سلطات العدو من أن الأسرى سيتوجهون إلى جنين ووضعت خططها على أساسه، كان يمكن لاشتباكات هنا وهناك على أطراف المدينة أن تفشل الخطة تماماً. لعل بعضنا يتذكر الرسائل المشفرة التي كان يبثها صوت الثورة الفلسطينية ويوجهها إلى المقاومين في الداخل. ويعلم كثيرون أن هذه الوسيلة على بساطتها كانت ذات أثر فعّال في تنفيذ بعض العمليات وحماية المنفذين. اليوم تمتلك كل قوى المقاومة محطات فضائية وإذاعات، لكن مثل تلك الرسائل المشفرة تغيب عنها. والتنظيمات الفلسطينية المقاومة مطالبة اليوم بإعادة الاعتبار لوسائل التواصل مع المقاومين بشكل أكثر تعقيداً واحترافاً.
الدرس الثاني؛ هشاشة الحاضنة الشعبية للمقاومة داخل فلسطين. بالعودة إلى قصص سمعناها وقرأناها عن دور الحاضنة الشعبية للمقاومة خلال الانتفاضات الفلسطينية، وبشكل خاص الانتفاضة الأولى، ندرك تماماً أن هذه الحاضنة قد أصابها الوهن والتشظي على يد كل من سلطة عباس وجيش الاحتلال. الأهم هو الشعور بعدم الجدوى، هذا الشعور نجم عن ممارسات الفصائل الفلسطينية نفسها، التي حولت إنجازات ثورات الشعب الفلسطيني وتضحياته من مواجهة مع العدو إلى مواجهة داخلية سياسية، وعسكرية أحياناً.
هذه البنية الهشة للبيئة الحاضنة للمقاومة، تجعلها غير قادرة على لعب دور حاسم في أي مواجهة مع العدو. الحديث هنا ليس عن الرواية البائسة التي حاول العدو من خلالها إلصاق تهمة التبليغ عن الأسرى لعائلة عربية من جنين؛ ولا عن ظاهرة العملاء، وهي ظاهرة رافقت كل احتلال على مر العصور، حتى لو كان هؤلاء العملاء يلبسون قناع السلطة الحاكمة، كما حدث مع حكومة فيشي في فرنسا، أو يحدث مع سلطة عباس في فلسطين. المقصود هنا الفعل الشعبي المقاوم… إغلاق الطرقات ونشر الشباب في الأزقة، وإطلاق صيحات التحذير عند رصد أي آلية للعدو تحاول التقدم. الاشتباك المباشر مع العدو وتشتيت جهود البحث، إطلاق الإشاعات وفبركة الصور لتشتيت انتباه العدو.
لقد تمكن البطلان أيهم الكممجي ونضال انفيعات من البقاء أحراراً لمدة 13 يوم، وكل ما حصلوا عليه كان تصريحات جوفاء وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي. حدثت بعض المظاهرات، لكنها كانت مظاهرات ومسيرات مبرمجة برعاية السلطة الفلسطينية وتحت أعين سلطات الاحتلال.
الدرس الثالث؛ غياب المشروع الكفاحي التحريري الحقيقي لدى فصائل المقاومة، واستبداله بمشاريع سياسية وإعلامية لا ترتقي إلى مستوى الفعل على الأرض.
الشعب الفلسطيني في حالة مواجهة مستمرة ويومية مع العدو منذ أكثر من مئة عام، فكيف يعقل أن الفصائل الفلسطينية لا تمتلك خطة طوارئ؟ ماذا لو حدثت مواجهة مع العدو، واضطر بعض المقاومين إلى الهرب والاختفاء؟ هذا السيناريو محتمل في كل لحظة، لكن تسلسل الأحداث يشير إلى أن فصائل المقاومة لا تمتلك مشروعاً تحريرياً ذو أفق وخطة واضحين.
المشروع الوطني التحرري؛ كلمة السر التي يمكنها تحويل أي فعل سياسي أو عسكري إلى إنجاز على طريق التحرير. هذا المشروع لا يختص بدولة أو ساحة بعينها، لكنه مشروع وحدة جبهة الكادحين المتضررين من الرأسمالية وأذنابها الرجعيين في منطقتنا. مشروع وحدوي في مرجعيته، مقاوم في طبيعته، جذري في مبادئه، وعنيف وإلغائي للعدو في وسائله.
كاتب من الأردن