«..وقائع موت معلن»

لم يَدُر بخلد غابرييل غارثيا ماركيز عندما كتب روايته “وقائع موت معلن” أن يحمل الواقع قصة تتفوق على خياله الروائي.

كان كل سكان القرية يعرفون بأن سانتياغو إبراهيم سيُقتل، لكن أحداً لم يحذره، حتى والدته أغلقت باب المنزل بالخطأ فسهلت قتله. بصورة أكثر قسوة كان العالم أجمع يعلم المصير الذي ينتظر المواطنين الأفغان بعد استيلاء “طالبان” على الحكم، لكن أحداً لم يُبادر لاتخاذ أي إجراء إلا بعد فوات الأوان.

لا يمكن لموت أن يكون أكثر علانية من منظر أولئك الذين سقطوا من الطائرة الأميركية وهي تغادر مطار كابول. احتفى البعض بالصورة ورآها دليلاً على مصير العملاء الذين يخونون أوطانهم، فالسقوط من الطائرة عقاب عادل لكل خائن. حتى الصمت الذي ساد بعد معرفة هوية أحد القتلى، الذي لم يكن سوى شاباً في العقد الثاني من عمره، يلعب لمنتخب كرة القدم للناشئين، ذلك الصمت كان مريباً وقاسياً لأنه تغاضى عن السؤال الأهم: ما الذي يدفع شاباً في مقتبل العمر للقيام بمثل هذا العمل الذي ينافي أبسط قواعد المنطق؟

في أحداث أبراج نيويورك في أيلول 2001، شاهدنا أشخاصاً يلقون بأنفسهم من النوافذ هرباً من الحريق. أشخاص استولى الذعر على عقولهم فأفقدهم القدرة على الحكم، فهل تشكل “طالبان” ذعراً مماثلا لجزء من المواطنين الأفغان؟

قبل تسارع الأحداث، ومنذ بداية الانسحاب من أفغانستان كان التهديد بموجات من اللجوء ماثلاً في ذهن الأوروبيين.

يشكل الأفغان الجنسية الثانية من حيث عدد طالبي اللجوء في أوروبا، وكانت مجموعة من الدول الأوروبية، مثل بلجيكا واليونان والدنمارك قد أبلغت الاتحاد الأوروبي، عبر رسالة، نيتها إعادة من رُفضت طلباتهم من طالبي اللجوء الأفغان إلى بلادهم طواعية أو بالقوة. وهو الطلب الذي أيدته ضمنا فرنسا وألمانيا من دون توقيع الرسالة. لاحقاً عادت هذه الدول لتعليق طلبها بعد استيلاء “طالبان” على الحكم.

في دول الجوار قامت أوزبكستان بتشديد الإجراءات على حدودها لمنع دخول اللاجئين، في ما تحدثت تقارير الأمم المتحدة عن توقعات بموجة من اللاجئين الأفغان تتجاوز المليون لاجئ قبل نهاية 2022، وذلك في حال وصول “طالبان” إلى الحكم في أفغانستان. عادت الأمم المتحدة لتعدل هذا الرقم بعد الوصول الفعلي لـ”طالبان” إلى كابول لتقول إنه قد يصل إلى 3– 5 ملايين لاجئ.

الحديث هنا لا يدور عن 150– 200 ألف متعاون وعدت قوات حلف الناتو بإجلائهم مع قواتها، ولا بتجار الحروب وأمرائها، من أمثال قلب الدين حكمتيار الذي يجتمع مع قادة “طالبان”، ولا رجال أميركا المخلصين من أمثال حامد كرزاي وعبد الله عبد الله. هذه الملايين تتشكل من معلمين ومعلمات، فنانين، ورياضيين، وموظفات وعاملين في الإعلام، وحالمين بالحب والسعادة، وباحثين عن فرص في الحياة بعيداً عن مطحنة الجهاد والمجاهدين. ما الذي يدفع كل هؤلاء إلى الهروب من بلادهم المحررة؟

بماذا يختلف هؤلاء المهاجرون عن أولئك الذين يسلمون مصائرهم للبحر بحثاً عن الجنة الموعودة في الدول الرأسمالية. في عام 2016 غرق 5238 إنسان أثناء محاولتهم الهجرة، تشير إحصائيات منظمة الهجرة العالمية أن 21% منهم كانوا من الأفغان، كما تشير الإحصائية نفسها إلى أن 3930 منهم غرقوا في البحر الأبيض المتوسط. هل كان هؤلاء المهاجرون مجرمين أم ضحايا لما فعله الغرب ببلادهم؟

خلال الأحداث الأخيرة في أفغانستان، كنت في زيارة لبرلين. التقيت طبيباً أفغانياً وتبادلنا الحديث عمّا يدور، بما في ذلك البرامج الانتخابية التي تركز على موضوع اللاجئين. أخبرني أن ابنته الكبرى ملتزمة دينياً، ورغم ذلك كان رد فعلها على منظر الشاب الذي سقط من الطائرة مفاجئاً. قالت لأبيها: إذا أجبرتنا ألمانيا على الرحيل فأنا مستعدة لإلقاء نفسي أمام القطار. لم يكن موقفها منطلقاً من كراهيتها لبلدها أو لدينها، ولكنها خبرة ارتسمت في ذهنها من عام 1998، كانت طفلة لم تتجاوز السادسة، ورأت والد ووالدة صديقتها يجلدان على يد شرطة “طالبان” بسبب تعليم الأم لابنتها العزف على البيانو.

بين الخوف من “طالبان”، وخديعة الجنة الرأسمالية يهرب مئات الآلاف من أوطانهم، يفقد بعضهم حياته، ويفقد معظمهم كرامته وإنسانيته، وقلة قليلة تحصل على الفرصة. هذه القلة هي من نراه على وسائل الإعلام، وتتحول إلى قصص نجاح وأفلام في هوليوود أو مسلسلات على نتفلكس، ويستمر الحلم الرأسمالي بالصعود.

أوطاننا ليست حصينة، ليس أمام الجيوش ولكن أمام الثقافات الغريبة والهجينة. لا تختلف ثقافة داعش و”طالبان” عن ثقافة الناتو؛ كلاهما قاتل متوحش… كلاهما كاذب يسوق أحلاماً يخدع بها جمهوره. لكن كلاهما استطاع اختراق مجتمعاتنا وتخريبها.

الغريب هو رد فعل دولنا التي اختارت مقاربة تعتمد على الالتفاف حول هذه الثقافات ومهادنتها من خلال حلول وسيطة من قبيل الموروث الثقافي والديني، والعرف الاجتماعي، وحرية الاستثمار، ورأس المال الوطني لتمنح هذه الثقافات منفذاً شرعياً إلى مجتمعاتنا وعقول أبنائنا. فما تكاد تعصف بالأوطان أزمة حتى يهرع بعض هؤلاء إلى أحضان الحلم الرأسمالي مهاجرين، أو أحضان الإرهاب مجاهدين.

هؤلاء الذين ركضوا خلف الطائرة الأميركية في مطار كابول، وأولئك الذين تناثرت جثثهم على الشواطئ هم ضحايا قبل أن يكونوا خونة، ضحايا المثقفين الذين استسلموا للموروث وعقدوا صفقة مع الشيطان سواء بنسخته الرجعية اجتماعياً أو العميلة سياسياً، وضحايا الأنظمة السياسية التي اختارت مهادنة العدو مقابل مكاسب ومساعدات وقبول من الرأي العام العالمي. لن يتوقف مواطنونا عن الجري خلف الطائرة الأميركية إلا عندما نستعيد وجهنا النضالي السياسي والاجتماعي، وعنادنا المبدئي وصلابتنا الثورية.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار