أميركا دفعت لأميركا

تحدث الكثيرون عن أن الحرب على أفغانستان كلفت الولايات المتحدة أكثر من تريليوني دولار.

واعتبر البعض أن هذا الرقم يشكل خسارة كبرى للولايات المتحدة، خاصة أنها لم تحقق الأهداف المرجوة من تلك الحرب.

البعض الآخر رأى في ذلك تعبيراً عن استثمار أميركا في بنى سطحية داخل المجتمع الأفغاني، وكانت هذه البنى هشة إلى حد أنها انهارت بمجرد الخروج الأميركي، لأنها كانت بنى نفعية مرتبطة بالمحتل وغير قادرة على الحياة في غياب رعاتها من القوى الاستعمارية.

لم يتوقف هؤلاء عند أخبار عابرة من قبيل أن الجيش الأفغاني لم يستلم رواتبه منذ عدة شهور، وأن البنى التحتية في المدن الأفغانية في حالة مزرية، وأن نصيب الفرد من الناتج الإجمالي السنوي حوالي 2000 دولار، وهي تحتل الترتيب 169 على العالم في هذا المجال، فأين ذهبت كل هذه الأموال؟

حول الخسائر البشرية الأميركية في أفغانستان، يتحدث الخبراء عن خسارة حوالي 2600 جندي و3500 متعاقد مدني. نتوقف قليلاً عند المتعاقدين المدنيين، وهؤلاء عادة موظفون أميركيون لدى شركات تقدم خدمات أمنية ولوجستية وخدمات البنى التحتية للمعسكرات الأميركية، إضافة إلى موظفين في شركات في مجالات التعدين والمناجم، والاستشارات التي تقدم لحكومات الدول الواقعة تحت الاحتلال. وقد اشتهرت في العراق شركات مثل بلاك ووتر، وكي بي آر، التي حققت أرباحاً بمليارات الدولارات.

رقم القتلى لا يشير إلى عدد المتعاقدين المدنيين الذين خدموا في أفغانستان، لكنه بالتأكيد يشير إلى أن هذا العدد بالآلاف.

بنظرة سريعة على تكلفة المتعاقد الواحد، بمعايير ما كان يحدث في العراق، فإن التكلفة تصل إلى حوالي 20 ألف دولار شهرياً، ما يعني دفع مئات المليارات بدل رواتب وتكاليف إقامة ومنافع تأمينية.

هذا من دون احتساب تعويضات القتلى والجرحى، لو أردنا معرفة المستفيدين من هذه المبالغ، إضافة إلى الشركات التي يعمل بها المتعاقدون، لوجدنا أنها شركات التأمين التي تقدم خدمات التأمين الصحي والتأمين على الحياة للمتعاقدين الأميركيين مقابل أقساط باهظة، إضافة إلى العاملين الأفغان مع هذه الشركات من خلال قانون قاعدة الدفاع (Defence Base Act). وشركات الطيران التي تعمل على نقل المتعاقدين ذهاباً وإياباً ونقل معداتهم وبضائعهم، وشركات التقنية التي تزودهم بالحلول ووسائل المراقبة والعمل الرقمية، وشركات الأمن والحماية.

هذه الأرقام تتضاعف عدة مرات بالنسبة للعسكريين، خاصة إذا أضفنا إليها تكلفة شراء الأسلحة المستخدمة في الحرب، وهي أسلحة تنتجها شركات خاصة غير مملوكة للحكومة، وشركات التقنية العسكرية والأدوية والتعويضات التي تدفعها الدولة للجرحى العسكريين الذين تجاوزوا عشرين ألف جريح.

كل هذه الأرقام مجتمعة تعطينا فكرة أولية عن المكان الذي صرفت به هذه التريليونات.

يقول قائل أنه بغض النظر عن المستفيدين فالحكومة الأميركية دفعت هذه الأموال ولم تحقق الهدف المطلوب.

هذه الفكرة تعيدنا إلى طبيعة النظام الرأسمالي والذي تشكّل الولايات المتحدة قمة هرمه، يعتمد النظام الرأسمالي على ما يسمى بدورة المال. المقصود بهذه الدورة (بشكل مبسط) هو تلك الدورة التي تنتقل فيها الدولارات منذ خروجها من الخزانة الأميركية وحتى عودتها إليها.

كلما اتسعت هذه الدورة، ازدادت الفوائد التي يحققها النظام الرأسمالي. فالحرب بالنسبة للنظام الرأسمالي نشاط اقتصادي كالزراعة والصناعة. والأموال التي تُدفع يتم استثمارها لخلق فرص عمل وبيع معدات وأسلحة وتقنيات وتنشيطٍ لتسويق البضائع المعمرة والتجارة الصغيرة، وفي النهاية تعود معظم الدولارات إلى الخزينة عن طريق الضرائب والرسوم.

في منتصف القرن الثامن عشر طوّر الاقتصادي الفرنسي فنسنت دي جورناي مبدأ “دعه يعمل.. دعه يمر” بهدف رفع كل القيود التي تفرضها الحكومات على النشاط الاقتصادي، مع مرور السنوات تطور هذا المبدأ حتى وصل إلى رفع القيود الأخلاقية. منذ النصف الثاني للقرن العشرين تصاعدت وحشية الرأسمالية وأخذ يتم التعبير عنها في الحروب, مثل حرب فيتنام، أو الحصار الظالم على كوبا، والانقلابات الدموية في تشيلي، وفرق الموت في السلفادور. لكن هذه الوحشية وصلت ذروتها مطلع القرن الحالي، مع انطلاق ما يسمى الحرب على الإرهاب.

عندما نتحدث عن التوحش لا نقصد به ما أصاب الضحايا من أبناء الدول المحتلة، ولكن الاستهتار بالحياة البشرية الذي وصل إلى مواطني الدول الرأسمالية أنفسهم.

واهمٌ من يعتقد أن الرأسمالية تكترث بحياة الجنود الذين يسقطون في ساحات الحروب. الجنود والمتعاقدون المدنيون والمواطنون ليسوا سوى خسائر جانبية يمكن التعامل معها ما دامت دورة رأس المال تدر أرباحاً وتؤمن سيطرة رأس المال على العالم.

هذه الدورة لن تتوقف بالانسحاب الأميركي، فصناعة أخرى ستنتعش؛ إنها صناعة اللاجئين. تتوقع الأمم المتحدة خروج أكثر من مليون لاجئ من أفغانستان خلال السنة القادمة، هذا غير أكثر من 150 ألفاً أجلتهم قوات “ناتو” معها. ومثل جميع قضايا اللاجئين في العالم سوف تستثمر قضية اللاجئين الأفغان اقتصادياً وسياسياً.

فمن ناحية ستبدأ المنظمات غير الحكومية ببرامج المساعدة العاجلة وبرامج التوطين، وترسل جيوشها إلى دول اللجوء للتعامل مع احتياجات اللاجئين. هذه العملية تحتاج إلى دول مانحة ومساعدات مالية دولية، وسلاسل تزويد بالاحتياجات الحياتية ناهيك عن أجور العاملين التي تُدفع بالدولار. سياسياً سيتم استخدام اللاجئين كورقة ضغط سياسية على دول اللجوء، كما هو حادث في قضية اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان، وكما تستخدمها التيارات اليمينية في الدول الرأسمالية للحصول على المزيد من التأييد لبرامجها الاقتصادية اليمينية، ولدعم أي حروب مستقبلية.

ما زال أمام العالم الكثير ليعرفه ويتعلمه من الحالة الأفغانية. ما نعرفه كضحايا دائمين للحروب الرأسمالية، أن أميركا لا تدفع إلا لأميركا. هذه المعلومة قدر ما تعني عملاء أميركا الذين يحلمون بخيراتها، فإنها تعنينا كمقاومين لنفهم طبيعة عدونا ونعرف أين نسدد ضرباتنا، لنحول معادلة الحرب والاحتلال إلى معاهدة خاسرة تدفع العدو إلى الانسحاب.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار