نعمة التكثيف!!
تُروى الحكاية على لسان سعد زغلول السياسي المصري القديم؛ حيث كتب لأحد أصدقائه رسالة من تسعين صفحة، وختمها بالقول: “اعذرني يا صديقي ليس لدي الوقت للاختصار..”.. أورد هذه الحكاية لأقول ليس (زمن السرعة) والوقت الضيّق، الذي يوصف به (زمننا)؛ هو الدافع لإنتاج النص المُكثف، والوجيز.. ذلك أنّ مثل هذا النص يحتاج – ربما- وقتاً طويلاً لإنجازه.. وربما العكس تماماً، فالنصوص التي تهدر الكثير من اللغة؛ هي التي تُنجز خلال فترة وجيزة وقصيرة..
أما الذي تغيّر؛ فهو الذائقة، التي لم يعد لديها الصبر لتنفق الوقت الطويل على هدر اللغة.. من هنا نتفهّم غضب أحد النقاد عندما يقول: “كم أمقت أولئك الروائيين الذين يسطرون روايتهم بمئات الصفحات من دون أن تطرح ما يزيد على ثلاث أفكار وليتها جديدة!.”.. ذلك أنه يرى أنّ القيمة الوحيدة لِما تكتبه اليوم؛ إنها تنبع من ضغط قلمك عليك، وليس من تقيؤ الأفكار التي اسودت من كثرة (العلك).. من هنا ينصح بـ”اختصر يا صديقي فالحياة برمتها مجرد اختصار، عش حياتك كأنك تموت غداً وستكون مصيباً يوماً ما!.”
تبدو الكتابة الحديثة اليوم، وكأنها حسمت أمرها، واتخذت أكثر من ملمح، أصبح يُشكّل حساسية النص الجديد، أقول النص وحسب، وذلك لأنّ هذا النص؛ لم يعد يكتفي بجنسٍ إبداعي يُكرس له كامل البياض، وثاني ملمح من هذه الحساسية الجديدة للنص؛ أن كامل البياض ليس واسعاً، كما قد يتبادر للذهن، ولذلك فإن أهم ما حسم النص الجديد أمره في مسألتين: الإقلال ما أمكن من السرد، أي سيادة النص القصير، ثم تداخل أكثر من جنس إبداعي بذات النص، أو ليُشكّل قيامة عمارته، ولعلّ أكثر ما برز في هذا المجال «الأقصودة» كما أطلقنا عليه في أكثر من مناسبة، وأقصد بذلك (القصة القصيرة جداً)..
الكتابة الجديدة، التي هي نتاج إرهاصات طويلة كاد أن يصير عمرها مئة من السنين، والتي استطاعت الانتقال من «النظَم» الذي استنفذ كل جمالياته في القصيدة الموزونة، وصولاً لما هي عليه القصيدة الجديدة، وهذا المنحى ليس اقتصاداً مُتعمداً، بل عفو الخيال الشعري، وصدق الإبداع الفني لقطف زهرات المجاز من تلك الحقول..
فهذا الشاعر الأمريكي (عزرا باوند) انفتح على الصين القديمة في “الكانتوات” (Cantos) واستعار مقاطع باللغة الصينية، بل ونظّر في مطلع القرن الماضي إلى ضرورة استلهام قصيدة الهايكو، وذلك حين أطلق حركته الشعرية المسماة “الصُورية” (Imagism) القائمة على قيم الاختزال والتكثيف.. ويجد الشاعر والمترجم عابد إسماعيل: “إن أقصر قصيدة في اللغة الإنكليزية هي تلك التي كتبها باوند عام 1913 بعنوان “محطة المترو” وهي مؤلفة من بيتين اثنين، يشكلان جملة اسمية واحدة، تخلو من أي فعل، وتصور وجوهاً هائمة في محطة قطار في باريس، وتعد أشهر قصيدة هايكو في الشعر الأميركي الحديث”.، وهو الأمر الذي انتبه له العرب منذ عقد من السنين فقط، أو أكثر قليلاً!!