رأسمالية المحاسيب.. والرأسمالية الوطنية!
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي نتحدث فيها عن رأسمالية المحاسيب في المجتمع المصري, لكن هذه المرة سوف نبرز دور الرأسمالية الوطنية التي سبحت ضد التيار في زمن الانفتاح.
بدأت رأسمالية المحاسيب في الظهور داخل المجتمع المصري مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي, وبعد نصر أكتوبر/تشرين 1973 قرر السادات تسليم مقدرات البلاد والعباد للمشروع الرأسمالي الغربي, وكانت مقولته الشهيرة أن 99 % من أوراق اللعبة في يد الأمريكيين , ولست أدري إن كان في لحظتها واعياً أم غير واعٍ بأن هذا الأمريكي هو عدو وليس صديقاً, فكيف تسلم له كل مقدرات بلادك وتصبح تابعاً, لا تمتلك قرارك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وتذهب وفقاً لإرادة هذا العدو الأمريكي لمعاهدة مكبلة لإرادتك مع العدو الصهيوني الحليف الإستراتيجي والفتى المدلل له, فتفقد نصرك العسكري ويتقزم دور بلادك على المستويين الإقليمي والدولي وتنكفئ على ذاتك, فيضيع المشروع الوطني ويتبعه المشروع القومي وتتفتت الأمة وتصبح فريسة سهلة ولقمة سائغة في فم العدو الأمريكي– الصهيوني.
تخلى السادات عن المشروع الاقتصادي الوطني الاشتراكي الذي تبنته مصر بعد ثورة يوليو 1952 وحققت من خلاله إنجازات تنموية رائعة انعكست آثارها على الخريطة الطبقية في مصر, حيث تمكنت الطبقات الفقيرة والكادحة من الفلاحين والعمال من الحصول على حقوقها المشروعة والعادلة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والتي حرمت منها في عصر الاحتلال والملكية, وبعد أن كان مجتمعنا هو مجتمع نصف في المئة من الأغنياء الذين يسيطرون على الثروة والسلطة, أصبحنا مجتمع تبرز فيه الطبقة الوسطى من خلال عمليات حراك اجتماعي صاعد للفقراء والكادحين بفعل سياسات تنموية تقوم بتوزيع عائد عملية التنمية على جموع المواطنين وبذلك تحققت العدالة الاجتماعية المفقودة تاريخياً في المجتمع المصري.
هذا التخلي من السادات كان بداية تدمير الاقتصاد الوطني الذي حقق العدالة الاجتماعية المفقودة, فمع إعلانه سياسة الانفتاح بدأت تبرز الرأسمالية الطفيلية التي انحصرت في مجموعة من المحاسيب المقربين من الرئيس شخصياً, وبدأت عمليات الفرز الاجتماعي تعمل من جديد حيث تآكلت مكتسبات الطبقة الوسطى التي تم إفقارها بشكل متعمد حتى يعود المجتمع لما قبل ثورة يوليو 1952.
ورحل السادات وجاء من خلفه مبارك ولم يتغير في الأمر شيء حيث سار على خطاه واستمرت سياسة رأسمالية المحاسيب بل تطورت حيث بدأ في تنفيذ تعليمات العدو الأمريكي- الصهيوني من خلال «روشتة» صندوق النقد الدولي التي تسعى للتخلص نهائياً من بقايا المشروع الاقتصادي التنموي الوطني, ثم أعلن مبارك عن خطة بيع ممتلكات الشعب في مزاد علني من خلال بيع القطاع العام, رغم أن الدستور الذي كان قد حلف على صيانته يعتبر القطاع العام حرمة لا يجوز المساس بها.
ورغم ذلك ضرب مبارك بالدستور عرض الحائط, لكنه وبعد أكثر من خمسة عشر عاماً أدرك الجريمة فقام في عام 2007 بتعديل الدستور والتخلص من هذه المواد التي تدينه, واستمرت رأسمالية المحاسيب في التحكم والسيطرة وحدث الزواج غير الشرعي بين رأس المال والسلطة, واستمرت عمليات السرقة والنهب لبعض المحاسيب المقربين من الأسرة الحاكمة (مبارك وزوجته وولداه), وهو ما نتج عنه تغيير جذري في الخريطة الطبقية لمصر حيث عاد من جديد مجتمع نصف في المئة، فعشية رحيل مبارك في 2011 كان 41 % من المصريين يعيشون تحت خط الفقر إلى جانب 25% يعيشون في حزامه, وهذه الأرقام وفقاً للتقارير الدولية الصادرة حول الفقر في مصر, ومع استمرار رأسمالية المحاسيب غابت العدالة الاجتماعية تماماً.
لكن على الرغم من ذلك لم تختفِ الرأسمالية الوطنية تماماً من المشهد, وبرزت بعض النماذج، منها على سبيل المثال الحاج محمود العربي الذي رحل عن عالمنا هذا الأسبوع وشيع في جنازة مهيبة, حيث خرجت الجماهير الغفيرة لتودعه, ليضرب مثالاً للرأسمالية الوطنية ورجل الأعمال الملتزم بمسؤوليته الاجتماعية تجاه وطنه, فالرجل عصامي بدأ بتجارة بسيطة وعمره ست سنوات تطورت حتى وصلت لتجارة الأدوات الكهربائية في بداية عصر الانفتاح, وفي عام 1975 زار اليابان وحصل على توكيل «توشيبا» لكنه لم يكتفِ بذلك بل تحول التوكيل إلى مصنع كبير لتصنيع الأجهزة الكهربائية ومع الوقت زاد المكون الوطني حتى وصل إلى ما يقرب من 90% ولأول مرة يرتبط اسم شركة عالمية باسم أحد وكلائها فأصبحت توشيبا في مصر تعرف بـ«توشيبا العربي».
وقد حاول القائمون على الحكم في عهد مبارك جذب الرجل لخندق رأسمالية المحاسيب وتزاوج رأس المال والسلطة عبر تجربة خوض الانتخابات البرلمانية لعام 1990 والتي شهدت أول استخدام للمال السياسي في مصر حيث خاض الحاج محمود العربي الانتخابات تحت مظلة الحزب الوطني الحاكم في دائرة الجمالية, أمام البرلماني الناصري العتيد محمود زينهم, ولم تصمد أموال العربي ودعم حكومة مبارك أمام زينهم وسقط العربي سقوطاً مدوياً, ومنذ تلك اللحظة قرر الرجل الابتعاد عن السياسة والسلطة, وتفرغ لمشروعه الصناعي ليتحول إلى مؤسسة وطنية كبيرة في مجال تصنيع الأجهزة الكهربائية, تضم آلاف العاملين من أبناء الشعب المصري, ولم يكتفِ العربي بذلك بل أنشأ مؤسسة خيرية قام من خلالها بمسؤوليته الاجتماعية كرجل أعمال وطني, وعندما هجمت «كورونا» لم يتخلَ عن عمّاله كما فعلت رأسمالية المحاسيب, لذلك خرجت الجماهير لوداع «شهبندر التجار» في محاولة للتمييز بينه كرأسمالي وطني وبين رأسمالية المحاسيب التي لن يوعها أحد، وعند رحيلها سيختفي ذكرها.
كاتب من مصر