رتْق

في الشارع المكتظّ الذي يليق به وصف زقاق، لضيق فُسحة الحركة فيه للآليات والمشاة والدراجات المتعاكسة، وقفتُ ريثما يُصلح الفتى عجلة السيارة التي فرغت من هوائها في وقت جدُّ سيئ، وهو كذلك دائماً! كان لظى الشمس غير محتمل، واللّظى الأشدّ هو الفضول الذي دهمني، لرؤية ماذا سيفعل الفتى ذو السبعة عشر ربيعاً ليعيد للدّولاب قدرته على العمل: فكّ البراغي بسرعة من يمسح زجاجاً عكراً، وحمله إلى عمق المحل الممتلئ بالقطع الصدئة والمطلوّة بالشحوم والعجلات ذات الحجوم المتفاوتة وألقاه في حوض ماء معدني، كان في الواقع برميلاً قصّتْه يدٌ خبيرة بشكل شاقولي فصار شبيهاً ببانيو حمّام، وراح يديره بسرعة من دون أن يلتفت إليّ، أقف إلى جواره مستظلّة بمقدمة سقف المحلّ، مندهشة من انسياب حركته البارعة: -عثرتُ عليه! إنه مسمار دقيق لكنه لم يصل إلى حابس الهواء الداخلي! وانتظرت لأرى كيف سيرتق مكان المسمار الذي راح يبحث عنه وهو يدير الدولاب بين يديه، بسرعة الهرولة. انتزعه بكماشة صغيرة وهو سليمٌ، لامعٌ، كأنه خرج لتوّه من آلة صقل! وضعه جانباً وأحضر ما يشبه القلم، كان برأسه شعلة نار، راح يذيب بها فجوة المسمار غير المرئية، ويذهب بي بعيداً إلى مقالة قرأتها منذ عقود عن مكبّات الدول الصّناعيّة الكبرى التي تتراكم فيها الأجهزة لأن تكاليف صيانتها تفوق بما لا يُقاس ثمنها جديدةً، وتذكرت قول أحد معارفي: إن الشركات تضع أعلى مدة صلاحية لمنتوجاتها، خمس سنوات! يعني على المستهلك أن يجدّد أجهزته دائماً ويرمي قديمه في المكبّات!
لم أفكّر طويلاً بفلسفة قدرة المسمار على إفساد قدرات من هو أكبر منه ودوره في الوجود مختلف، ولا بالمفاجآت التي يصفعنا بها القدر على غير انتظار، فقد كان لديّ موعد هام فاتني بسبب التوقف لتأهيل الدولاب، بل حضر الفتى الحاذق، الخبير برغم حداثة سنّه، وأحضر معه ذاكرة كاملة عن أهل هذه الأرض الذين أتقنوا «الرّتق» منذ أبحرت مراكبهم الشّراعيّة في البحار وصنعوا شِباك الصيد، وكنت قرأت بالأمس أيضاً، عن سيدة صنعت من سراويل «الجينز» المهترئة، حقائب جميلة لأبنائها بسبب أسعار السوق الكاوية، وكيف صنّعت الدفاتر من ورق أبيض، بمساعدة صاحب مكتبة، قام بالخَرْز واللّصق والتغليف!
حين أتمّ الفتى عمله وعاد كلٌّ إلى استعداده للدوران، سألته عن المدرسة فقال : إنه يدرس الثانوية العامة لكنه يعمل في ورشة عمّه منذ بداية الصّيف لأنه لا يرضى أن يكون عبئاً على أبيه الموظف في البلدية والمعيل لخمسة أبناء وهو يحتاج إلى مصاريف، ما كان الطالب يحتاجها في الماضي، كما يقول الواقع الذي بات يحتاج إلى «رتوق» لكل «ثقوبه»! وكان العمّ في هذه اللحظة قد توجه نحوي لقبض أتعابه قبل أن أقلع وأنا أصوغ في ذهني جُمل الاعتذار عن التأخير!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار