سفر الخروج
تسمرنا أمام الشاشات نتابع اجتياح حركة “طالبان” للعاصمة الأفغانية كابول. كان الحدث متوقعاً منذ أشهر، فقد وعد بايدن بهذا الانسحاب في حملته الانتخابية.
السرعة التي تتالت بها الأحداث جعلتها محط اهتمام وسائل الإعلام، وبشكل خاص قناة الجزيرة التي اعتبرت ما حدث “نصراً” قطرياً، وبذلت الساعات الطويلة للدفاع عن “طالبان” الجديدة!
كاد الانسحاب الأميركي ينتهي من دون حوادث تذكر، بل إن العائق الوحيد كان سببه عملاء أميركا وموظفيها الذين اندفعوا نحو المطار خوفاً من المصير الذي ينتظرهم على يد قوات “طالبان”.
حتى الانفجار الذي تبناه “داعش” الإرهابي وذهب ضحيته 13 عسكرياً أميركياً، منح إدارة بايدن الفرصة لشن هجومين على ما ادعت أنه مواقع لتنظيم الدولة، وتبديد بعض اللغط الذي اعتبر الانسحاب الأميركي هزيمة عسكرية تشبه ما حدث في فيتنام.
لأننا نكره أميركا أولاً، ولأن كل تراجع أو انسحاب لها من منطقتنا يُعتبر نصراً للقوى المناهضة لوجودها، اعتبر معظمنا ما حدث نصراً، وقارناه بالمشهد الشهير لطائرة الهليكوبتر التي أخلت آخر الجنود الأميركيين من سايغون بعد الهزيمة المذلة في فيتنام، وقارنها البعض الآخر بفرار العدو الإسرائيلي من لبنان عام 2000.
بغض النظر عن رأينا بما حدث في أفغانستان؛ سواء أكان صفقة بين أميركا و”طالبان”، أو اندحاراً أميركياً و”نصراً” طالبانياً، إلا أن المقارنة بين ما حدث في كابول وانتصار حركات التحرر الوطني، فيه مجازفة أخلاقية وسذاجة سياسية.
يكمن الخلل الأول في اعتبار “طالبان” حركة تحرر وطني، وهو أمر لا تدعيه” طالبان” نفسها، فهي تعرّف نفسها كتنظيم ديني يسعى إلى إقامة إمارة إسلامية، وتأتي مواجهتها مع الغرب في سياقين؛ الموقف الديني من الكفار، وما يقوم به الغرب لمنع إنشاء الإمارة الإسلامية العتيدة.
ولا يجد الباحث في الشعارات التي تطرحها الحركة ما يشير إلى تبنيها برنامجاً، أو حتى فكراً، مناهضاً للرأسمالية أو شعارات ذات طابع وطني (قومي).
على العكس من ذلك، فهي ترى أن التدخل في توزيع الثروة يناقض مبدأ توزيع الرزق الرباني، وترى في القومية عصبية نهى عنها الإسلام.
تمثل “طالبان” فكراً رجعياً بامتياز، سواء من خلال بنيتها القبلية القائمة على عرق الباشتون (48% من السكان) وحرمان الأفغان من أعراق أخرى من المشاركة في الحكم، وهو ما تجلى بموقف الطاجيك (27% من السكان) المناهض لحكم “طالبان” وإطلاقهم المقاومة ضدها في وادي بنجشير.
كما تتميز “طالبان” بموقفها المتشدد من الفنون والرياضة والمرأة وحقوق الطفل، وهو الأمر الذي ينافي ما طرحته في بداية احتلالها لكابول حول مشاركة المرأة والموقف من الفنون.
فخلال أسبوعين فقط أصدرت الحركة قراراً بمنع بث الأغاني على القنوات المحلية، ومنع المذيعات من الظهور على شاشات التلفزيون، وطلبت من الموظفات البقاء في منازلهن لحين إعداد القانون الذي يحدد الضوابط الشرعية لعمل المرأة.
سياسياً كان وصول “طالبان” إلى الحكم عام 1996 نقطة الانطلاق لما يعرف بالحرب على الإرهاب.
في هذا السياق قُصف اليمن والسودان وباكستان، واُحتل العراق، وتحتل القوات الأميركية جزءاً من سورية، ويتم تجويع الشعب اللبناني، وأُنشأت القواعد العسكرية الأميركية في كل دول المنطقة، وعُقدت الاتفاقيات العسكرية والتطبيعية مع معظم دول المنطقة.
ولأن أميركا هي التي صنعت الإرهاب والحرب عليه، لذلك بإمكانها إعلان النصر أو الهزيمة على هذا الإرهاب في أي وقت، وحسب مصالحها ومشاريعها المستقبلية.
وجود “طالبان” قنبلة موقوتة يمكن لأميركا تفجيرها في أي وقت وفي أي اتجاه تريد، خاصة أنها تمثل حلقة مهمة في مشروع “الحزام والطريق”، وبالتالي يمكنها إعاقة تقدم هذا المشروع نيابة عن الولايات المتحدة، ودون الحاجة إلى مواجهة مباشرة بين أميركا والدول المستفيدة من هذا المشروع.
لا شك أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان تعبير عن فشل المشروع الأميركي، لكن “طالبان” التي تتعايش مع الأميركيين منذ سنوات ليست أحد أسباب هذا الفشل.
إعادة تنظيم الصفوف الأميركية جاء على وقع ضربات المقاومة في العراق، وصمود الجيش العربي السوري في وجه نفس المشروع الإرهابي الذي ترعاه “طالبان”، وتعاظم قوة المقاومة، وتصاعد الدور الإقليمي لإيران، والدور الدولي للصين وروسيا،”طالبان” لم تكن، ولن تكون، طرفاً في هذا المحور. لذلك فالانسحاب الأميركي من أفغانستان يشبه انسحابها من الصومال أو العراق، لكنه بالتأكيد لا يشبه انسحابها من لبنان بعد تدمير مقر المارينز، ولا من هانوي، ولا من هافانا.
لكن ما سبب الاندفاع الغربي للاعتراف بالهزيمة، ووصفها بأنها أكبر هزيمة في تاريخ “ناتو”، وأنها هزيمة مذلة؟ هل أصيبت القوى الاستعمارية بداء الصدق والشفافية؟ لم يبقَ مسؤول عسكري سابق لم يعلن الهزيمة؛ ابتداء من مايكل بنس وزير الدفاع الأميركي الأسبق، إلى مدير الاستخبارات الإسرائيلية السابق، ومعظم ضباط حلف “ناتو” السابقين؛ بل إن أول من أعلن الهزيمة كان أرمين لاشيت، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم في ألمانيا، وتبعه أولاف شولتز، زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي والمرشح الأقوى لخلافة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
الحقيقة أن القوى الاستعمارية تعيد ترتيب صفوفها للمعركة القادمة؛ في تلك المعركة يجب أن يبدو الغرب في حالة دفاع عن النفس في مواجهة القوى الغاشمة التي تحاول الإطاحة بالتجربة الغربية “الناجحة” وهو نفس الحديث الذي خرج به جورج بوش الابن بعد تفجيرات أيلول 2001، والانهيار المالي 2008، من أن المستهدف هو التجربة الأميركية وطريقة الحياة الغربية. المستهدف بهذه الحملة هو مواطن هذه الدول الغربية الذي سيدفع ثمن الحروب المقبلة.
بالنسبة لنا، علينا التحلي ببعض الصبر وضبط النفس قبل إعلان الانتصار، هذا لا يعني أننا غير معنيين بما يحدث لكننا ضمن حلف دولي قد يكون مستهدفاً من كل ما يحدث وعلينا مراعاة موقف حلفائنا ومصالحهم، قبل مطاردة أحلامنا بالنصر.
كاتب من الأردن