بقيَتْ سوراً

تبدّل السكّان! كان في البيت عائلة أقامت خمسة عشر عاماً تحت سقفه وبين جدرانه، ولكَم يغدو الحجَر شبيهاً بمن يتنفّس بقربه ويتحدّث ويضحك ويبكي ويلتقي ويفارق وهو بجواره. إن الحجر ليحيا بأنفاس أهله، قلت لنفسي هذا حين دخلت البيت بمحض المصادفة يوم حصل تفجير إجراميٌّ هائل في مكان غير مرئي، جعلني أقف متسمّرة على الرصيف أسائل نفسي، من هم الضّحايا هذه المرة؟ وفُتحَت نافذة وراء ظهري وناداني صوت أنثويٌّ جريح: – تفضلي! ادخلي بسرعة… ووجدت نفسي عندها أمام طاولة مغطّاة بكتّان أبيض مطرّز بغرزة فلسطينية، أفصحت صلبانها الدقيقة عن زهر لوز وشقائق نعمان، وبينما كانت تسكب القهوة خيّمت اللوحات الموزّعة على الجدران، على رأسي، كأنها ظلال بيّارة ليمون! حدسْتُ أن السيدة فنانة تطريز وهي تستحضر وطنها عبر اللوحات في ليالي السّهر وجلسات العزلة وساعات الحنين! ولحظةَ تلاشى نفيرُ سيارات الإسعاف، كنا قد خضنا حديثاً ثنائياً، لكنه بمفردات متحدّث واحد: – سيدمّرون ما استطاعوا بفجور بلا عقال، سيقتلون الأبرياء ويخلون بيوتاً وأحياءً وقرى، لكنهم في النهاية سيزولون ويتبخرون كرياح السموم، وبعد أن غادرتُ حضر في ذهني ما كان غائباً عني في الجلسة الطارئة: الستائر العسلية المسدلة على نافذة الشارع، التي منها أطلّت السيدة لحظة رأتني على الرصيف، وذلك التطريز الناعم على أطرافها، ورائحة القهوة القوية كأنها رذاذُ معطّر، وطنين الصّمت الذي يهيمن على البيت حين غابت دقائق في غرفة داخلية ثم عادت!.
الزمن لا يترك شيئاً على حاله حين يمرُّ عليه، حتى لو كان مروراً بلا مبالاة، فكيف إذا مرّ برفقة حرب قيل إنه لا مثيل لها في التاريخ؟ بعد عشر سنوات وقفتُ أمام تلك النافذة متفهّمة بعمق شجن الشعراء الذين بكوْا على الأطلال، رغم أن زجاج النافذة كان يبرق من صفاء ونظافة، لكن الستارة كانت مشجّرة بورد برتقاليٍّ مطبوع، ومضمومة على الجانبين بحيث بدت الجدران في الداخل بلون أزرق سماوي وعليها لوحة فواكه صارخة الأحمر والبنفسجي! وراحت وجاءت مراراً، سيدة أربعينية تتحدث بعصبية على الهاتف بحيث لم يعد المنزل ينعم بطنين الصمت الذي لم أفهم تفسيره العلمي يوماً! لم تنتبه الساكنة الجديدة إلى وقفتي الطويلة، ربما لأنها تحلُّ مشكلة على الهاتف أو تنتظر طبخة على النار، ولا تتخيل أن زائرة ما، لا تعرفها، ستسأل عن سكانٍ كانوا وغادروا، وقبل أن أغادر مقتنعةً بأن البيت الذي أعرفه قد غادر هو الآخر مع أهله، رأيتها أمام ناظري: خضراء، عالية، مزهرة بآلاف النجوم البيضاء العطرة! الياسمينة العفيّة لم تكن بنت اليوم ولا السنة، بل بنت أكثر من خمسة عشر عاماً! إنها زرع يد من كانوا ورحلوا وحين أخذوا كل شيء لم تغادر معهم بل بقيت سوراً يعلو كل يوم! وأيُّ سور؟ إنه راوي الذكريات ومستَقبِلُ من عصف به حنينُ الوقوف على الأطلال وتقليب دفاتر الأيام!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار