النص كوجه آخر للمحنة!
حين تعانقُ الروحُ الأحلامَ تتنزَّهُ فوقَ الغيمِ على جناحي فراشةٍ، وتصيدُ البحرَ في سلّةِ ضحكةٍ, ولها أن تسوقَ الغابةَ إلى الصحراء، ليتعرّفَ الزعرورُ على النخلةِ, فلربّما تفتقَتْ موهبةُ الخلقِ عن أشجارٍ رحّالةٍ لا يأسرُها مناخٌ, وسيجدُ لنا الخيالُ ألفَ فتوى تبيحُ جموحنا بصفتِهُ “ربّ القصيدة”، أو على الأقل هو من يسوقُ رياحَ غيومها لتُمطرَ أزرقَ على صفحات البياض.
أما حين يتعلّقُ الأمرُ بالبقاءِ؛ فغالباً ما يُخرِجُ العقلُ المؤثراتِ الأخرى تماماً كما يفعل الأطفالِ، ويغلقُ البابَ!.. حينها ينزلُ المثقّفُ الحقيقي من برجِهِ العاجي, – هل حقاً ثمة برجٍ للمُثقف سواء من عاج أو من خشب؟!!- أو ربما ينزل من غرفة تأملاته.. الغرفة المُخالفة على سطح الطابق الخامس، أو السادس ربما؛ يخلعُ نظارةَ الرفاهيّةِ الفكريّةِ ويلبسُ مقاسَ الجرح!..
وليشعرَ بما يجولُ في خاطرِ الناسِ؛ كان عليه دائماً أن يُفكرَ كعشبةِ (المدّيدة), تلك النبتة التي تلصقُ أذنَها على قلبِ الأرضِ، وتتحسّسُ كجزءِ منها خباياها وحاجاتِها وفيضَ خلقِها المستورِ في عتمةِ الصمت.. بعض القبائل في مجاهل أفريقيا يقدسون (الثعبان – الأفعى)؛ لأنها في رأيهم تلتصقُ بالأرض، وتفهمُ كل ما يدورُ على سطحها وبداخلها..
خيبة المثقف اليوم الذي مازال، مكانه مسلوباً ومهمشاً، هي خيبة تتعاظم، بتجاهل توصيفه لهذه المحنة، بأنها محنة ثقافية بإحدى وجوهها، وجاءت الحرب على سورية لتُعمّق الهوة بين المثقف والناس.. حتى أنها خلقت صراعاً أكبر؛ وهو المثقف بمواجهة المثقف.. وتبادل التهم بين عددٍ من المثقفين؛ يعكس بشكلٍ واضح حال الثقافة والمثقفين: ركود، وهرولة في المكان، وأحياناً السعي وراء أدوار ومناصب فوق دم الضحية، ومن ثمّ كان أن اختفى المثقف الذي نعته يوماً (ساراماغو) بإحدى رواياته بـ”الإسفنجة”.. المُثقف الذي فشل في امتصاص كل هذا الهلاك، وإعادة صياغته بمعادلٍ إبداعي يليق بالحدث الجلل، ومن ثم ذهب ضالاً ومضللاً في أزقة الوصولية باحثاً عن خشبة خلاصه الفردي تحت عناوين الأنا الجمعية الكاذبة ..!
يذكر صاحب كتاب (غواية البراءة) الفيلسوف جكنرا: إن ما يجعل المثقف جديراً بقول كلمته أكثر من غيره؛ هو أن لديه شيئاً أصيلاً يقوله، أو أنه أعمل فكره في موضوعٍ محدد يقيه بغية الانفعال من جهة، والكلام المكرور من جهة أخرى، أما المجالات التي يتضح أن الصحافي والخبير أو السياسي المحترف يعرفون فيها ما لايعرفه المثقف، فإنّ عليه فيها أن يلتزم الصمت، وأن يصمد في وجه إغراء الظهور الإعلامي لا من قبيل الغنج والتمنع، بل من قبيل المحافظة على تماسكه بالذات.. ومن ثمّ فالمثقف لا يستمدُّ الحظوة التي يتمتع بها إلا من الكتب التي ينشرها، أو من خلال الأبحاث التي يشرف عليها، فهي وحدها التي تضفي عليه مشروعيته..
اليوم فشلت كل (المُعادلات) الإبداعية من سينما ومسرح، ورواية، وغيرها، في أن تكون، أو تُشكّل (الموازي) الإبداعي لما حدث!!.. أظنُّ كان الأمر بحاجةٍ للفيلم الوثائقي وحسب، وهذا ما لم يحصل، وإن حصل ففي حيزه الأضيق، وللحديث بقية..!!