أمريكا وطالبان وصناعة الإرهاب!
ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن صناعة الإرهاب التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية, والتي تستثمر فيها منذ سنوات طويلة, فلم يعد هناك شك بأن أمريكا هي صانعة الإرهاب الأولى في العالم فهي التي ترعى الجماعات الإرهابية التي تحصد أرواح البشر الأبرياء من دون ذنب فوق كوكب المعمورة، ورغم ذلك تحاول أن توهم العالم من خلال صناعتها الأخرى المسيطرة عليها -وهي الإعلام- بأنها بريئة من صناعتها للإرهاب, وأنه صناعة عربية- إسلامية, وكانت البداية أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي السابق بدعوى أنها “دولة كافرة “وتحاول نشر الإلحاد في العالم وعلى المسلمين أن يقوموا بمحاربتها, وبالفعل تم تشجيع بعض الحكام العرب لإرسال مواطنيهم للذهاب إلى أفغانستان للجهاد ضد الكفر والإلحاد بدعم من الولايات المتحدة التي أمدت هؤلاء “المجاهدين” المضحوك عليهم بالمال والسلاح, وانتهت المعركة بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990, وعاد المجاهدون من أفغانستان إلى بلادهم العربية والإسلامية ليمارسوا العنف والإرهاب داخل هذه المجتمعات.
ومع انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي أصبحت أفغانستان ساحة للاقتتال الأهلي, وفي عام 1994 تأسست حركة طالبان “كحركة قومية– إسلامية مسلحة, تسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية” على يد الملا محمد عمر وبرزت كأحد أهم الفصائل في الحرب الأهلية الأفغانية, وكان معظم منتسبيها من الطلبة في مناطق البشتون شرق وجنوب أفغانستان الذين تلقوا تعليمهم في مدارس إسلامية تقليدية, وقاتلوا خلال فترة الحرب السوفييتية– الأفغانية, وتمكن الملا محمد عمر من نشر دعوة الحركة في معظم أفغانستان, حتى سيطر على العاصمة كابول في سبتمبر 1996 وأعلن عن قيام “الإمارة الإسلامية” في أفغانستان وتم نقل العاصمة إلى قندهار, وظلوا بالحكم حتى عام 2001 عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية غزو أفغانستان بزعم القضاء على تنظيم القاعدة صنيعتها المتحالف مع حركة طالبان.
وهنا يطرح السؤال هل تركت الولايات المتحدة الساحة الأفغانية بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي؟ والإجابة بالطبع لا، فهي من صنعت حركة طالبان ومكنتها من الوصول للحكم لتكون خنجراً في الخاصرة الرخوة لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي, وهي من صنعت تنظيم القاعدة الذي أثار الرعب في العالم على مدى عقدين من الزمان تحول على أثرها أسامة بن لادن الثري السعودي إلى أسطورة بواسطة الآلة الإعلامية الأمريكية الجبارة، حيث نسب إليه وتنظيمه أكبر حادثة إرهابية في العالم وهى تفجير برجي التجارة العالمية بالولايات المتحدة ذاتها في 11 سبتمبر 2001 وباستخدام أحدث أساليب التكنولوجيا الحربية من صواريخ وطائرات, وهو ما أثار العديد من علامات الاستفهام حول قوة وقدرة التنظيم الذي استطاع أن يخترق أكبر منظومة أمنية في العالم, على الرغم من أن قادته وكما صور لنا الإعلام الأمريكي ذاته يعيشون في الجبال والكهوف في أفغانستان, وقامت أمريكا بإعلان الحرب على حركة طالبان وتنظيم القاعدة بدعوى أنهما المسؤولان عن الإرهاب في العالم ورغم ذلك توارت حركة طالبان وظل تنظيم القاعدة موجوداً ومتصدراً للمشهد الإرهابي حول العالم ويصدر يومياً بيانات يتم تداولها عبر الآلة الإعلامية الدولية أنه المسؤول عن كل تفجير يحدث هنا أو هناك.
ومع تفعيل وتسريع خطوات مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى من خلاله الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفتيت وتقسيم المنطقة على أسس مذهبية وعرقية وطائفية وهو ما يستلزم استخدام ورقة الجماعات الإرهابية لتكون عملية التقسيم والتفتيت من الداخل من دون مواجهة مباشرة منها كما حدث في أفغانستان والعراق, حيث استغلت موجات الغضب الشعبي داخل بعض البلدان العربية وقامت بسكب مزيد من الزيت فوق النيران المشتعلة مع الدفع بعناصر مدربة تابعة لها لتقود الشارع لصالحها, ثم قامت بدعم الجماعات الإرهابية بالداخل لتمكينها من تنفيذ مشروعها وهنا اختفى تنظيم القاعدة من المشهد الإرهابي العالمي, واختفى أيضاً من فوق المنابر الإعلامية التي كانت تقوم بالترويج له, وهو ما يعنى أن الولايات المتحدة هي التي كانت ترعى هذا التنظيم وتروج له وعندما انتهت مهمته اختفى من الوجود.
وبدأت الولايات المتحدة كعادتها بالاعتماد على القوى الإرهابية القديمة المتمثلة في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وعندما فشل هذا التنظيم في تنفيذ مخطط الولايات المتحدة التقسيمي والتفتيتي للمنطقة, قامت الولايات المتحدة الأمريكية بصناعة عدد من التنظيمات الإرهابية الجديدة وأطلقت يدها بالمنطقة ودعمتها بالمال والسلاح، فسمعنا عن أنصار بيت المقدس بسيناء, وجبهة النصرة وجند الشام بسورية, لكن سرعان ما اختفت هذه التنظيمات سريعاً وقامت بمبايعة التنظيم الإرهابي الجديد والأسطورة التي صنعتها الولايات المتحدة وروجت لها عبر آلتها الإعلامية الجبارة وهو تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام والذي عرف إعلامياً بتنظيم “داعش” والذي أصبح بعبعاً جديداً تخيف به أمريكا العالم أجمع.
وبعد فشل مشروع الشرق الأوسط الجديد وتغير الإدارة الأمريكية وصعود جو بايدن للحكم, قررت الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب من أفغانستان, لكن هذا الانسحاب لا يمكن أن يكون من دون تحقيق مكاسب في إطار الصراع الجديد مع روسيا والصين المنافسين الجديدين للولايات المتحدة على الساحة الدولية وإيران المتحدي لها والخارج عن طاعتها في منطقة الشرق الأوسط, لذلك جاء الانسحاب بعد اتفاق مع حركة طالبان تم في قطر ولاقى ترحيباً تركياً, لذلك لا عجب من عودة سيطرة طالبان مرة أخرى للسيطرة على الحكم في أفغانستان وبسهولة ويسر ومن دون إراقة دماء, تزامناً مع الانسحاب الأمريكي.
وبالطبع الولايات المتحدة ترغب في ذلك لتهديد أمن واستقرار أعدائها (روسيا والصين وإيران) الذين يشتركون في الحدود مع أفغانستان, وما يؤكد رعاية الولايات المتحدة للإرهاب هو عدم قضائها على حركة طالبان لمدة عشرين عاماً احتلت خلالها أفغانستان, حيث احتفظت بها كورقة يمكن استثمارها في أي وقت, لكن ردود فعل خصوم الأمريكيين وترحيبهم بطالبان قد يربك المشهد في ظل تعالي أصوات الجمهوريين خصوم جو بايدن بالداخل الأمريكي, لكن رغم عبثية المشهد إلا أننا لا يمكن تفسير ما يحدث بعيداً عن الرعاية الأمريكية للإرهاب ومحاولة أعطاء التنظيمات الإرهابية قبلة الحياة بعد الهزائم المتتالية في مصر وسورية والعراق وتونس.
كاتب من مصر