العدالة الاجتماعية والفقر الانتحاري!
ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن قضية العدالة الاجتماعية ولا أظن أنها ستكون الأخيرة, فهي واحدة من القضايا الرئيسية والمتجددة التي تمس شعوبنا العربية عامة وشعبنا المصري خاصة على مدار التاريخ, وفي محاولة التأصيل لهذه القضية يمكننا القول إن العدالة الاجتماعية أحد المفاهيم المركزية في الفكر الإنساني بصفة عامة والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة, والعدالة الاجتماعية مطلب إنساني عالمي فيمكن القول بما لا يدع مجالاً للشك إن تاريخ البشرية بما يحمله من صراع طبقي بين من يملكون ومن لا يملكون كان يهدف وما يزال إلى تحقيق حد أدنى من العدالة الاجتماعية, وردم الفجوة بين الأغنياء الذين يحصلون على كل شيء بسهولة ويسر وبين الفقراء الذين يحصلون على متطلباتهم الحياتية اليومية بصعوبة وعسر, ويمكننا أيضاً تأكيد أن الأديان والرسالات السماوية كانت تهدف ضمن ما تهدف إلى إقرار العدالة الاجتماعية بين البشر, وما الثورات التي شهدها التاريخ الإنساني إلا وكانت أحد أهم أهدافها ومطالبها الرئيسية تحقيق العدالة الاجتماعية داخل المجتمعات التي شهدتها.
وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص فالمجتمع المصري أحد المجتمعات التي ناضل الفقراء والكادحون فيها من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية على مر العصور, فمنذ العصر الفرعوني والفقراء والكادحون يطالبون بالعدالة الاجتماعية من الحاكم وتسجل جدران المعابد الفرعونية العديد من القصص والروايات التي تؤكد كلامنا وتدعمه، فما شكوى الفلاح الفصيح للفرعون الإله من جور وظلم موظفيه إلا مطالبة بالعدالة الاجتماعية, وما نضال الشعب المصري ضد قوى الاحتلال عبر التاريخ القديم والحديث إلا بهدف التحرر من الاستغلال والحصول على حقوقهم المشروعة في خيرات بلادهم.
وفي العصر الحديث الذي يؤرخ له بالحملة الفرنسية على مصر والتي تولى بعدها محمد علي باشا مقاليد الحكم بإرادة شعبية, كان المطلب الأول لجموع المصريين هو تحقيق قدر ما من العدالة الاجتماعية خاصة بين الفلاحين الذين كانوا يعانون أشد المعاناة في ظل نظام اقتصادي ظالم كان يعرف بنظام الالتزام حيث كان الحاكم يوزع أراضي الدولة على مجموعة من الملتزمين الذين يسددون الضرائب للدولة نيابة عن الفلاحين, ثم يتولون هم جمع الضرائب من الفلاحين وكانوا يجمعونها أضعافاً مضاعفة بخلاف تسخير الفلاحين للعمل في أراضيهم الخاصة التي كان يطلق عليها اسم (الوسيه) وهو ما دفع الفلاحين للهروب من الظلم والقهر والاستبداد وهجر الأرض الزراعية, لذلك حين جاء محمد علي باشا ألغى نظام الالتزام وأحل محله نظام الاحتكار، فأصبح هو المالك الوحيد للأرض الزراعية وبدأت الدولة في جمع الضرائب مرة واحدة في العام، ما أشعر الفلاح بنوع من العدالة الاجتماعية, وفي هذا الصدد يسجل المستشرق وليم إدور لين أن الفلاحين بعد إلغاء نظام الالتزام عندما كانوا يقابلون الملتزمين القدامى كانوا يتفاخرون أمامهم بأنهم أصبحوا فلاحي الباشا يقصدون محمد علي باشا المالك الجديد لأرض مصر.
ومع مرور الوقت بدأ المصريون يشعرون بغياب العدالة الاجتماعية مع أبناء وأحفاد محمد علي باشا, وأن النظام الذي استحدثه ظالم، فملكيته المنفردة للأرض جعلت هؤلاء الأبناء والأحفاد يمنحون الأرض على شكل هبات لبعض العائلات من المقربين منهم من دون وجه حق, فتشكل الإقطاع الذي امتلك مئات وآلاف الأفدنة، وقام بممارسة الظلم والقهر والاستبداد بالفلاحين المصريين أصحاب الأرض الحقيقيين, وعندما جاءت ثورة 23 يوليو 1952 قام جمال عبد الناصر بالانتصار للفقراء والكادحين من الشعب المصري وعلى رأسهم الفلاحون، فكانت قوانين الإصلاح الزراعي التي انتزعت الأرض من الإقطاعيين لتوزع على الفلاحين ليشعروا بالعدالة الاجتماعية المفقودة, ثم كانت جملة السياسات المنحازة للفقراء والكادحين والمهمشين الذين كانوا يمثلون أكثر من 80 % من الشعب المصري فتغيرت الخريطة الطبقية تماما حيث تشكلت الطبقة الوسطى المصرية التي تراوحت تقديراتها بين 35 و45 % وفقاً للتقارير والدراسات العلمية في مطلع السبعينيات ويرجع ذلك لوضع جمال عبد الناصر قضية العدالة الاجتماعية في مقدمة أولوياته.
ومع صعود الرئيس السادات لسدة الحكم قرر التخلي عن السياسات المنحازة للفقراء والكادحين والمهمشين والتي حققت لهم قدراً لا بأس به من العدالة الاجتماعية, فكانت سياسات الانفتاح الاقتصادي وإطلاق آليات السوق وتبني السياسة الرأسمالية التابعة وهي السياسات التي تعمل لصالح الطبقات والفئات والشرائح العليا داخل المجتمع وتزيد من معاناة الطبقات والفئات والشرائح الوسطى والدنيا, ومع مرور الوقت بدأت معاناة الفقراء تعود من جديد وبدأت مناداتهم بتحقيق العدالة الاجتماعية وكانت انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير 1977 خير شاهد وخير دليل.
وجاء مبارك ليسير على نهج السادات نفسه ووفقاً للسياسات نفسها التي تعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء, وخلال فترة حكمه شهدت مصر ظواهر غريبة منها ظاهرة الفقر الانتحاري, حيث قام بعض المصريين بالانتحار نتيجة الفقر, وتمر علينا هذا الأسبوع ذكرى أليمة لشاب مصري قام بالانتحار لأنه غير لائق اجتماعياً, ففي عام 2002 طالعتنا الصحف بخبر انتحار الشاب عبد الحميد شتا ابن قرية ميت الفرماوي مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية, وهو ابن فلاح مصري بسيط تفوق دراسياً وكافح هو وأسرته حتى تخرج بامتياز من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, وتقدم لامتحانات الخارجية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي, واجتاز الاختبارات بنجاح وحاز على المركز الأول, وعندما جاء موعد إعلان النتيجة وجد اسمه من بين المستبعدين وبجوار الاسم عبارة “غير لائق اجتماعياً”, وفي تلك اللحظة قرر الانتحار وقام بإلقاء نفسه في النيل.
وانتهت فترة حكم مبارك بقيام ثورة 25 يناير 2011 التي كانت أهم مطالبها هي تحقيق العدالة الاجتماعية, والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وبعد مرور عشر سنوات على رحيل مبارك هل تحققت العدالة الاجتماعية، وهل اختفى الفقر الانتحاري؟ وهل يشعر أبناء الفقراء المتفوقون أنهم لائقون اجتماعياً؟ أسئلة لا تحتاج إجابة بل عملاً على الأرض لتحقيق العدالة الاجتماعية المفقودة.
كاتب من مصر