عن واقعين ..!
بين المجاز والواقع؛ أكثر من انجدال، أو تشابك؛ لدرجة أحياناً قد تغيب الحدود بين العالمين، فلا يعرف المرء، أين ينتهي الواقع، ولا أين يبدأ الخيال.. وطالما سعى الكثيرون في الواقع إلى رسم نهايات لحياتهم تشبه الروايات أو الأفلام السينمائية، وهنا يمكن أن نتلمس وبكل بساطة تلك العلاقة الغامضة والملتبسة للفن بالواقع، والتي تجعلنا نتساءل: أيهما يقلّد الآخر ويُحاكيه، الفن أم الواقع؟! وتالياً، هل النهايات التي سعينا إليها في حياتنا كنا نُقلّد بها سير العشاق وحكاياتهم، أم إن هذه القصص نفسها كانت تُقلّد الواقع وتتأثر به وتنسج على منواله، أم إن كلاً منهما يولد من الآخر ويخلقه في آن واحد؟!!
ربما كان التساؤل الأخير هو الأقرب إلى الحقيقة والأكثر انسجاماً مع وقائع الحياة وتجلياتها اليومية، وقد تكون التجربة الإبداعية للروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز خير مُعبّر عن العلاقة الجدلية بين الطرفين، فالواقعية السحرية في جوهرها؛ ليست سوى اختزال رمزي مكثف لعلاقة المنجز بالمحلوم به وبالواقع المُتخيل والحسي بالحدسي، وكل من المادي والماورائي, وهو ما يتمثل بوضوح في روايات ماركيز وبقية أعماله, ففي حواره المطوّل مع الناقد الكولومبي (بيلينو ميندوزا) يعلن صاحب (قصة موت معلن), و(خريف البطريرك), أن الواقع نفسه أغنى من كل طاقة تخيلية، وأن الكثير من الخوارق والأساطير التي رواها في أعماله كانت في حقيقتها تستند إلى الواقع وتنطلق من أحداثه..
الوجه الآخر للصورة هو أن الحياة بدورها تُقلد الفن، وتنسج على منواله, وليس بالضرورة حين ينتهي عاشقان بعد زمن طويل إلى زواج ولو متأخراً قد يكونا قرأا رواية ماركيز الرائعة (الحب في الزمن الكوليرا)، ومع ذلك هما لم يفعلا شيئاً سوى إعادة إنتاج الرمز على أرض الواقع، وإنزاله من مرتبة الحلم إلى مرتبة الحقيقة.. فماركيز في الرواية يتحدث عن قصة حب مؤثرة جمعت بين شابين فتيين أحدهما في العشرين من عمره، والآخر وهي الفتاة تصغره بسنتين, ولما كان فقر الشاب ورغبة والد الفتاة بتزويجها من رجل ثري حالا دون النهاية السعيدة؛ فإنّ هذه النهاية لا تلبث أن تتحقق بعد سبعين عاماً من الانفصال القسري.. فالشاب الذي حُرم حبيبته؛ لم يخلد إلى القنوط واليأس, بل عقد العزم على تحصيل ثروة طائلة تمكنه من استعادتها ولو في آخر العمر.. غير أن الحصول على الثروة ذاتها لم يكن كافياً لتحقيق الحلم إذ كان عليه أن ينتظر بجلد وصبر وفاة الزوج المُتربص حتى إذا تحقق الأمران حمل العاشق الذي هدّه الزمن والانتظار وردةً حمراء، وذهب إلى المرأة التي لم تكن تفعل شيئاً بدورها سوى انتظار هذه اللحظة!!