«الخضر ومار جرجس»!
تُخزّنُ الذاكرة الجمعية لكلِّ مجتمعٍ حكماً وأمثالاً تتخذ منحى حكائياً غالباً ما يكون مُعشقاً بجانبٍ فانتازي شائق، ورؤية غيبية هادفة, والحكاية التي كانت الجدات يرددنها على مسامع الأبناء والأحفاد تقول إن الإنسان الذي يقطع شجرة سنديان، أو بلوط لا ينجبُ أطفالاً، والماعز التي تقضم غصنَ بلوطٍ أو سنديان؛ يصبح حليبها ساماً، وإذا كان جدياً فإنه يضعف حتى يموت.. إلى ما هنالك من العقوبات التي تطول كلّ من يعتدي على الأشجار خاصةً منها أشجار البلوط والسنديان التي تحيط بالمقامات الدينية.. فقد يخطفُ صاحب المقام وفق الحكايات المتواترة الشجرة المقطوعة من سارقها، ثم ينتقم منه، كأن يجعله يتعثر وتنكسر يده أو رجله أو يمرض ويصاب بداء الهلوسة .
ساهمت هذه المتواترات الشعبية إلى حدٍّ كبير في حماية ثروتنا الحراجية في بعض المناطق, ومع تكرارها أصبحت الأرض السورية تحتضنُ الكثيرَ من أشجار البلوط والسنديان المعمرة.. وحين كبرنا علمنا أن الحكايات كانت تُركز على هاتين الشجرتين لهدفين رئيسين: أولهما: يتعلق بكونهما المسؤولتين إلى حدٍّ كبير عن جذب المطر، وثانيهما يتعلق بخشبهما الثمين، والذي يصلح لكلِّ الحاجات البشرية.
على أن السؤال الذي شغلنا فيما بعد يتعلق بارتباط كثافة أشجار البلوط والسنديان بالمقامات الدينية التي تحمل اسم (الخضر)، أو (مار جرجس) وغيرها من الأسماء التي وإن اختلفت؛ فهي توحدت ضمن ثقافة تنص على حماية الشجرة ومعاقبة كلَّ من يشذ عن هذه الثقافة الجمعية المتوارثة عبر أجيالٍ يعود تاريخ الإعتقاد بها إلى سورية ما قبل الميلاد, ولا خلاف في القول إن الفكر المثيولوجي الغيبي جعل المستعمرين الذين تناوبوا على منطقة شرق المتوسط وتشربوا أساطيرها يتهيبون الغابات المحيطة بالمقامات الدينية.
فـ(قديس) الخضرة الذي غدا منسياً بين أهله؛ هاجر عبر المتوسط إلى العالم، وصار له اتباع وجمعيات وأحزاب مدنية تعنى بشؤون البيئة, فهناك اليوم عشرات الأحزاب التي تطلق على نفسها (حزب الخضر) في العالم، وبعيداً عن التذكير بالجمعيات العالمية التي أطلقت على نفسها اسم ذلك القديس؛ تبدو استعادته في الظروف الحالية ضرورة ملحة.. ذلك لأن الغابات والمحميات الطبيعية تتم استباحتها بطريقة تذكرنا بسلوك البدوي الذي يرى الشجرة وحشاً يتربص به فيقطعها ويطعم أوراقها لأغنامه ويتدفأ على عظامها, وهذا ما يحدث الآن في بعض الأماكن حيث انفلت البعض بحجة البرد القارس إلى قطع كل ما تقع عليه أيديهم من أشجار معمرة مع الإشارة إلى أن الثروة الحراجية هي كل ما يملكه الإنسان في بعض الأماكن.. ولم يبقَ الأمر عند هذا الحد، بل أن الذهنية التدميرية لا تملّ تُشعل النار في أخضر الشجر عن سابق عمد عند كل صيفٍ حارق، وكأن ثمة ذهنية ثأرية لا ينتهي حقدها على الجمال أبداً!!