يا بُني تذكر غداً..
كتبنا الكثير في وصف وتحليل ما حدث ويحدث عبر تاريخنا كله قديمه وحديثه، لكننا قصّرنا في وضع الحلول، وعجزنا عن تعبيد الطريق نحو المستقبل.
انشغل رجال السياسة في بلادنا بالحاضر واليومي، أما الشعراء والأدباء والمفكرون فانشغلوا بالماضي ينبشون أوابده، ويستنطقون أحداثه.
وكان لهذا الانشغال ما يبرره، فمنذ إنشاء دولنا الحديثة، كان حاضرنا مأزوماً على كافة الصعد.
ولدت الأزمة مع إنشاء الدول العربية الحديثة، التي رسم المستعمر حدودها على وقع تفتيت الأمة وتقسيمها. من رحم هذه الأزمة ولدت الأزمات الأخرى، فتلك الدول كانت بالكاد قادرة على الحفاظ على “استقلالها” السياسي، ولم تجد أمامها من طريق سوى التبعية للاستعمار اقتصادياً.
وفي ظل تشظي الهوية الوطنية نشأت أزمات اجتماعية وثقافية، وجاء إنشاء الكيان الصهيوني على يد المستعمر نفسه ليضيف إلى كل ما سبق أزمة سياسية- عسكرية.
عانت الأنظمة السياسية في معظم الدول الناشئة من أزمة شرعيتها. فتلك الدول قامت على فكرة التحرر والوحدة، في الوقت الذي كانت تنهار فيه الإمبراطوريات الكبرى في العالم.
اعتقد أحرار الأمة أن اللحظة مواتية لتحقيق أحلامهم، لكن الدول التي نشأت كانت بعيدة جداً عن تلك الأحلام، بل لعلها كانت أسوأ كوابيسهم. بعد سقوط شرعية الثورة، بحثت الأنظمة الوليدة عن الشرعية في دوائر الاستعمار ومنظماته، وأصبحت عضوية الأمم المتحدة، أو حتى عضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم إنجازاً وطنياً يُحتفى به.
حلمنا بالوحدة، لكننا لم نفعل شيئاً لتحويل الحلم إلى حقيقة، واقتصر الحلم على تجربة وحيدة مثلتها الوحدة السورية- المصرية، لكنها كانت وحدة منقوصة لأنها اقتصرت على البنى السياسية، دون البنى الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ورغم قِصَر عمر تلك الوحدة، كان حجم العداء الدولي والرجعية لها دليلاً على أن الوحدة كانت وستبقى أسوأ كوابيس المستعمر.
في ظل تلك الأزمات المتلاحقة تحول العمل السياسي العربي إلى عملية إدارة للأزمات في محاولة لإنقاذ الأنظمة من تبعاتها. غاب العمل من أجل المستقبل في ظل التخبط في وحل الواقع. كان التآمر، من الداخل والخارج، نصيب كل محاولة للتحرر من قيود الاستعمار، ووصل حد اللجوء إلى القوة العسكرية كما حدث في العدوان الثلاثي على مصر 1956، وحرب حزيران 1967، والعدوان على لبنان 1982.
كان الواقع كابوساً، فلجأنا إلى الماضي نجتر أمجاده، ونصنع منها عالماً وردياً يسكن الروايات ودواوين الشعر.
من عالم الوهم ذاك نشأت ثقافة منفصلة عن الواقع، ترى في نفسها العظمة رغم قلة إنجازاتها، وتعتقد في نفسها القوة رغم الهزائم المتكررة، وفي غياهبها نشأ “وعي مفوت” يسير عكس اتجاه الزمن، ويحاول استعادة الماضي بدلاً من الانطلاق نحو المستقبل.
بعد كارثة سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية في العام 1989، انطلقت الديمقراطية الليبرالية من عقالها، وسوقت نفسها باعتبارها الحل النهائي لكل الأزمات. جذب هذا الوهم الكثير من السياسيين والمثقفين، وأصبح حديث الديمقراطية والحرية الفردية الأكثر تداولاً في مجتمعاتنا، ونشأت طبقة سياسية هجينة لا هم لها إلا التحسر على غياب الديمقراطية والحرية وتداول السلطة.
وغاب عن تلك الطبقة أن الديمقراطية الليبرالية لن تتحقق إلا بتوفر شرطين: شعوب أنجزت استقلالها السياسي والاقتصادي ومشروعها الحضاري، وطموحات استعمارية لا تتسع إلا للرأسمالية ومصالحها. أما في دولنا فالرأسمالية لم تجد فرصتها للنمو بسبب ما مارسه الاستعمار من نهب منتظم لخيراتنا، ولأننا ما زلنا بعيدين عن الاستقلال السياسي والاقتصادي، وتم تجريف مشروعنا الثقافي والحضاري، وأصبحنا نعاني من أزمة حادة في تحديد هويتنا الوطنية في ظل تصاعد تيارات تحاول فرض هويات فرعية، تجاوزت الهويات القطرية التي فرضها الاستعمار لتصل إلى حضيض الهويات الجهوية والعشائرية داخل البلد الواحد.
لم يكن غياب هذه الحقائق ناتجاً عن سهو أو خطأ أو حتى سوء تقدير، ولكنه كان جزءاً من مخطط يهدف إلى إعادة صياغة جغرافيا وتاريخ هذه المنطقة بما يتناسب مع مصالح الرأسمالية لتجاوز أزمتها. كان ما سمي “الربيع العربي” نصيب بلادنا من هذا المشروع. لكننا رغم الحرب والمؤامرات والحصار.. انتصرنا.
اليوم يتسابق السياسيون والاقتصاديون للحديث عن العودة إلى ما كان الحال عليه قبل “ربيع الخيانة”، وكأننا لم نتعلم الدرسّ وكأن ما نحن عليه اليوم ليس نتيجة لما كنا عليه بالأمس.
إن كنا قد تعلمنا الدرس فعلينا تغيير مناهجنا بما يتناسب مع متغيرات العصر، وأن نخلصها من المسلمات والقوالب الجاهزة ونغنيها بالفكر العلمي النقدي، ثم نزيل من القوانين الناظمة لحياتنا ما يعوق التطور ويميز بين المواطنين، ونعيد صياغتها بعيداً عن النصوص الموروثة من قوانين الاستعمار أو صفحات التاريخ، بحيث تضمن المساواة وتؤسس لدولة علمانية لا فضل فيها إلا لمن يعمل في سبيل أمته ويقوم بواجباته.
أما اقتصادنا المرهق بالتبعية للمستعمر، والمرتهن للسماسرة والوكلاء، فلا بد أن نعيده إلى درب الإنتاج برفع مساهمة القطاعات الإنتاجية (الصناعة والزراعة) في الناتج القومي، وتخليصه من مستنقع الاستهلاك، والارتهان للاستثمارات الأجنبية، ودعم دور الدولة الاجتماعي. وعلينا أن نبني جسور التعاون الاقتصادي عبر الحدود التي رسمها الاستعمار على أرضنا وفي عقولنا.
يعتقد الكثيرون أننا لا نملك اليوم سوى الحلم بالعودة إلى بلاد خالية من الجيوش والقواعد الأجنبية، والحصول على الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
على هؤلاء التجول في بلادنا، سيرون قلاع المحتلين الذين حلموا بالبقاء في بلادنا وقد درست، وغطى العشب جدرانها، وأصبحت مزاراً للسياحة وعبرة لكل محتل، بعد أن يتعلموا الدرس عليهم أن يعودوا إلى أطفالهم ليقولوا لهم ما قاله محمود درويش:
يا بني تذكر غداً
وتذكر قلاعاً صليبية
قضمتها حشائش نيسان
بعد رحيل الجنود.
كاتب من الأردن