الأسد في خطاب القسم.. درس تاريخي في علم السياسة

شهدت دمشق حفلاً دستورياً يحمل دلالات استثنائية في منعطف تاريخي جديد، عنوانه العريض: انتصار سورية، وهي تتطلع خلال السبع سنوات القادمة التي استعرض فيها الرئيس بشار الأسد أهم التوجهات السياسية، ومنها بناء اقتصاد سورية بالإصرار نفسه الذي كافحت فيه لتحقيق سيادتها على أساس الدستور.

اليوم يتأكد أن سورية جعلت الدستور بما أنه تعبير عن سيادة الوطن وإرادة الشعب، مرجعيتها خلال عشرية العدوان. فلقد كان الدستور والسيادة السورية مستهدفين من قبل القاصي والداني، في بدايات الأزمة، حين ظنّ خصوم سورية أنّ هذه الأخيرة يمكنها أن تسقط بالترهيب وشراء الذمم والوساطات الكاذبة التي كانت تقايض الأسد على التخلي عن السيادة السورية. فاز الأسد في الانتخابات الرئاسية لأنّه كان على موعد مع التّاريخ: قاد سورية في معركة المصير، وناضل بوفاء لحماية مجد الشّام، وهو شكل ناذر من القادة الذين حافظوا على سَمْتِهم السياسي ووعيهم القومي.

لقد تناول الخطاب الذي القاه الرئيس بشار الأسد بمناسبة مراسيم أداء اليمين الدستوري لولاية جديدة التي جاءت عن جدارة واستحقاق، مضمونا في علم السياسة والفكر الدستوري، لم تكن خطبة خطابية شأن الخطابات الأيديولوجية الغالبة على تقاليد الخطابة السياسية، بل كانت كلمة أكاديمية تتناول مفاهيم حقيقية، وكشفت عن وعي عميق لدى القيادة السورية بتفاصيل ما قبل وما بعد المؤامرة على سورية.

لقد تحدّث الأسد كثيراً عن الشعب وعن تضحيات الجيش العربي السوري، وعن الحلفاء، ولم يتحدث عن نفسه، فكان لا بدّ أن نتحدّث عن الأسد بوصفه القائد الذي من خلاله تمت إدارة معادلة الصراع. فحين يقول بأن الوطن والدستور أولوية غير خاضعة للنقاش، فهو يتحدث عن موقف كلّف عشر سنوات من الصمود، بل إن استحضرنا الماضي، فالحصار بأشكاله الناعمة ظلّ مفروضا على سورية منذ عشرات السنين نتيجة مواقفها القومية.

برنامج الأسد القادم واضح وجدّي، فهو يمنح أولوية في تحقيق العدالة الاجتماعية وبناء الاقتصاد السوري وتحسين معيشة المواطنين، وتحرير ما تبقى من أراضي تحت سيطرة الاحتلال. المقاومة، وكما حثّ الرئيس الأسد، هي حقيقة، وأن انتصار العدو يتحقق حين يقنع غالبية الناس بأن المقاومة كذبة، وحينما نعتبر أن السياسة هي النأي بالنفس أو اعتبار ما يجري حولنا إقليميا هو بمعزل عن قضيتنا، مذكرا بأنّ أقرب قضية إلينا هي القضية الفلسطينية.

هذا وقد ذكر الأسد بثقته في حلفائه الذين خاضوا معه معركة التحرير للأراضي السورية. الدرس الذي قدمه الأسد، هو درس حافل بالحقائق والعبر، درس للجميع، ودرس شجاع لأنه يستند إلى المفاهيم الواضحة ويواجه كل أشكال المغالطات.

إنّ المغالطات التي واجهتها سورية منذ البداية كثيرة، فأمّا الخصوم فقد أظهروا العدوانية منذ البداية، وأما أصحاب النأي بالنفس أو اللعب على الحبال أو من كانوا ينتظرون سقوط سورية ليظهروا أكثر، ولكن حين صمدت بدؤوا يخرجون من حالة النأي بالنفس، هذا في حين كانت سورية تحتاج إلى الوفاء والوضوح.

قضية الانتماء في خطاب الرئيس واضحة، فلا خير فيمن ليس له انتماء: انتماء للعائلة أو القبيلة أو القوم أو الدين، وكلها قيم مشتركة تشكل مرجعيات حقيقية لوطن غنيّ بتنوعه منسجم في مواقفه.

الدرس المهم الذي قدمه الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم، هو عدم وجود منطقة رمادية بين الحق والباطل، الثورة والإرهاب، الوطن والخيانة الخ. فلقد واجهت سورية عدوانا إقليميا ودوليا يتدرع جميعه بالمنطقة الرمادية في تبرير العدوان والخيانة. خلال عشر سنوات من العدوان على سورية لاحظنا انحطاط المعنى والسياسة والقانون في إدارة العدوان.

اليوم ربما بدأت تتحلل المنطقة الرمادية نتيجة الانتصارات البطولية التي كبدت خصوم سورية خسارات كبيرة، وحيث كما تتحدث كل التقارير والتصريحات بأن زمان الإطاحة بالنظام السوري قد ولّى، وبأن المستقبل هو لتسوية سياسية منطقية. هذا جاء نتيجة صمود سورية وليس جميل يقدمه المجتمع الدّولي. هذا الوضع كان حريّا بتحوّلات – وإن كانت غير مفيدة – متأخرة تصلح أن تكون عنوانا لسقوط خيار النأي بالنفس أو الاختباء في المنطقة الرمادية.

عشر سنوات من العدوان، تحالف التيار الإخواني وحلفاؤه في الداخل والمنطقة- عبر قاعدة التّعدي الرياضي- مع الناتو للإطاحة بسورية نظاما وجيشا ومؤسسات. الأعداء عبروا عن موقفهم، لكن المتلونين تحالفوا مع خصوم سورية وتبادلوا معهم في الكواليس العقيدة التخريبية لسورية في لعبة تقسيم الأدوار وانتظار ما كانوا ينتظرون، أي سقوط سورية، ليعلنوا عن تحالفهم التاريخي مع الإخوان. خطاب القسم أظهر وعياً دقيقاً بأصناف العدوان على سورية، عشر سنوات من الإجهاز على سورية كانت تتطلب وضوحا وحسما وليس تحالفاً مع من يقتل الإنسان السوري من فلول الإرهاب.

ما قيمة أن نتحدث عن سورية بعد عشر سنوات من الصمت؟ نحن شاهدون على تلك المنطقة الرمادية، ولقد حشرناها ورجالاتها في الزاوية، وهناك دائما من يسعى قبل أن تُشفى الجراح أن يغير التاريخ ويمحو آثاره.

وفي ظنّي أنّ الأسد يكتب من خلال كلماته التاريخ الصحيح لسورية، تاريخ لا يحفل إلاّ بالمواقف الواضحة، ووحده يفضح المنطقة الرمادية، لأنّ مزوِّري التاريخ وأعداء سورية لن يكونوا إلاّ جنساً واحداً.

كان خطاب القسم عنوانا لعودة الشموخ السوري، مراسيم تعكس هيبة دولة قاومت لتحافظ على نفسها ولتحافظ على ما تبقّى من الانتماء العربي، ولتحافظ على السيرورة المنطقية لنظام عالمي متعدد الأقطاب. معركة سورية لم تكن خاصة بل هي معركة عامة تهمّ العالم بأسره. ثمة من يزعجه انتصار سورية، وهناك من يهمهم فقط أن يغيروا القناع للتكيف مع عصر انتصار سورية، وهناك من يجتهدون للخروج من خيبات الأمل.

غير أنّ ما يهمّ هو أنّ التحدّي اليوم هو أكبر: من سيكتب التاريخ؟ وبما أنّ سورية انتصرت بشعبها وقيادتها وجيشها وحلفائها، فهي وحلفاؤها الحقيقيون سيكتبون تاريخها، سنكتب جزء من هذا التاريخ لا محالة ولن نسمح بمسخ تاريخ من الكفاح، ولن نسمح بالتزوير، وسنتصدّى لكل محاولات العبث بعشر سنوات من الكفاح، ومحاولات التسلّل كالأفاعي الرقطاء إلى عمق الحقيقة السورية وبيتها الممانع .

سورية ليست دكّانا للمتاجرة؟ ألم نشهد عشر سنوات من يوميات المواجهة؟ ألم يذكرهم الأسد في خطاب القسم بأنّ من كان يظنّ أنه سيحول السوريين إلى مرتزقة ضدّ وطنهم خاب ظنّه؟ لقد كان الأسد أيضا وفيّا للحقيقة، وذلك حين ذكّر مرة أخرى بانقلاب المفاهيم ولعبة المصطلحات في عشرية العدوان على سورية.

القابعون في المنطقة الرمادية لم يقدموا لسورية أيّ شيئ حتى على صعيد معركة المفاهيم. الاستهانة بسورية سواء في المواجهة أو في الإلتفاف على التاريخ والحقيقة هو غباء، غباء لا يمكن أن يمرّ، ولو بكل مغالطات الرجل المقنّع. الانتماء بما فيه القومي ليس صناعة بشرية أيديولوجية محض، بل هي في نظر الأسد حقيقة مكتسبة بالولادة, فلقد تحدّث عن حقائق وقيم كثيرة من وجهة نظر سياسية، مما يؤكّد أنّ خطاب القسم كان درسا في علم السياسة.

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار