بعد أقل من دقيقة، بدّلت المحطة وهي تعبّر عن امتعاضها من المشهد: طويلٌ، مملٌّ، سقيم! وفي الواقع كان المشهد حواراً بين زوجين دخل بينهما ظلُّ عشيقة، ومثل هذه اللحظات اشتغل عليها الفنُّ الروائيّ والقصصي والسينمائي، وتبارى مبدعوه في استحضار علم النفس والاجتماع واللّغة وهي تناور على «السّطح» لتكشف المضمَر من العلوم الإنسانية، والفكرة التي ينحاز إليها المبدع: تمجيد الحب، تمجيد الكيان العائلي، الإخلاص، الخيانة، الانتقام، القيم الاجتماعية! وهي لم تفعل إلا قطعَ متابعتي لموضوعٍ كان قد أذهلني في رواية (ياسوناري كاواباتا) (حزنٌ وجمال) وأرست بجهاز التحكّم محطةً تذيع أغاني عصرية تشبه في صخبها وصورها المتتابعة المظاهرات العشوائية! وما لبثت أن حجَبَت الصوت وتركت الصورة، لنستطيع تبادل الكلام! ولم تفاجئني حين راحت تهجو أولئك الذين لم يفهموا بعد أننا نعيش عصر السرعة، ولم يعد هناك وقت لقراءة رواية أو قصة طويلة، ولا لمشاهدة فيلم له بطلٌ واحد يعرُج على معاناته مثل (سيزيف)، أو حكاية تلفزيونية تتمدّد ثلاثين حلقة وأكثر، ولولا تلك المشاجرات التي كانت تتسلح بالخناجر وما تصل إليه اليد من قطع حديد وزجاج وآلات حادة مع صيحات الشجاعة، قصدها الغضب والتشجيع، قصدها التحريض، لما شاهدَت مسلسلات البيئة، قصدها المسلسلات (الشامية)! وحتى ما زُعم أنه تمجيد لبطولات الجيش، كان مخيّباً لآمالها في مشاهدة معارك ضارية، عرفناها جميعاً من الأخبار! هل كان هناك حقاً وقتٌ عند المقاتل كي يحبَّ ويتراسلَ مع أهله ومحبوبته ورفاقه وهو محاصَرٌ في جبهات النار؟.
كادت السيدة تنتمي، ولعلها لا تدري، إلى ثقافة (الأكشن) التي غُذّيَت بها العقول عبر عقود من الزمن، بدأت بأفلام (الويسترن) أو (الكاوبوي) ثم سباق السيارات في الأفلام إياها وهي تطارد هارباً في الغرب الأمريكي، وانتهت إلى ابتلاع كل فنون الشعوب، وربما لهذا نسمع بين وقت وآخر تصنيفات منظمة (اليونسكو) لبعض الرقصات والألحان التي أبدعتها الشعوب على أنها (تراث) إنسانيّ! تراث يعني يُحال إلى المتاحف والمعاهد المتخصصة، على ندرتها! وفي حديثها المسترسل المملوء بالثقة أضافت إنها حين تشاهد أعمال السبعينيات والثمانينيات تشعر بالطرافة وترغب بالضّحك بسبب بطء الحركة وصبر المخرجين على الممثلين، وبالعكس! وما كان بوسعي أن أقول لها إنه التغريب وليس استلابَ الهوية فحسب، بل استلاب الإنسانية التي أصلها التأمل والإصغاء والاستمتاع الهادئ وكلّه أساسُ الفنون الجميلة والتقليب على النار الهادئة كحال الصلصال وهو يتحوّل إلى خزف، لأنها كانت تعطيني نصفَ حواسّها: أذن معي وعين على الشّاشة المصطخبة الصامتة! وفقط حين انقطعت الكهرباء وجدت مناسباً أن أقول لها: هل تعلمين أن صنّاعَ ومروّجي ثقافة (الأكشن) أنفسهم، يعملون الآن على تدمير وإنهاء كل الفنون الشعبية في العالم؟ وهكذا نكون من سكان (قريتهم) الصغيرة، والقرية كما تعلمين هي مُنتِج الفن الإنساني الأول، وهم يريدونه على مزاجهم قبل أن يرى النور والحياة!.