من يوميّات دبلوماسي ورحالة روسي وحديث طويل عن « سورية من دون نفاق »
لم تبدأ التنقيبات الجدّية في شمال الجزيرة السورية؛ إلا في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى إثر تلك الاكتشافات؛ أغنت معرفة تاريخ البشرية بشكلٍ يفوق الوصف، حيث يُسمي علماء الآثار شمال بلاد الرافدين (بلد آلاف العواصم)، هنا حيث «يرقد» تحت كلِّ تلٍ تقريباً مركز لدولة قديمة.
وليس عمق هذه الحضارات المُتكومة، هو ما لفت الدبلوماسي والرحالة والمؤرخ الروسي في سورية، وهو الذي خبرها لمدة ربع قرن بحكم عمله في سفارة بلاده في دمشق، بل إن (أركادي فينوغرادوف) العضو في اتحاد كُتّاب روسيا، أكثر ما أثاره هو ما حدث لسورية خلال عقدٍ من الحرب التي شُنت عليها، كان رأس حربتها الولايات المتحدة الأمريكية، وممن شغلهم النظام التركي وكيان الاحتلال البغيض «إسرائيل»، ولذلك قبل أن يُكشف عن أسباب هذه الحرب الإرهابية؛ فهو يذهب بعيداً وبلغةٍ بسيطة، وسهلة وواضحة، بل هي أقرب إلى يوميات مَعيشة، لكنه أيضاً ومن خلال هذه اليوميات التي عاشها لمدة خمس وعشرين سنة، يُوغلُ بعيداً في الأرض العتيقة لقرونٍ بعيدة، بمعلوماتٍ سلسة قد تكون معروفة للكثير من السوريين، لكنها مهمة جداً لقارئٍ أجنبي عاش أشد أنواع التضليل والتزوير الذي كانت تُنتجه فضائيات تنظيم «الإخوان المسلمين» ولاسيما المتمثلة بقناة الجزيرة القطرية التي اعتمد خطابها التحريضي القاتل مختلف أنواع الإعلام الغربي الذي يُشير إليه فينوغرادوف، حيث يجمع في كتاب كل مشاهداته من سورية القديمة بآثارها ومكوناتها، وأسواقها التراثية، ومعابدها، وأريافها وبساتينها، وتشكيلها السياسي القوي منذ أكثر من خمسين سنة إلى اليوم، هذا الشكل السياسي الذي قضّ مضاجع الغرب، وحقد على سورية ولاسيما من خلال منع شركاته النفطية من التنقيب واستثمار النفط السوري، والذي كشف ذلك سرقة أمريكا لهذا النفط بكل ما تملك من مرتزقة وبلطجة.
هذا الكتاب، الذي قام بترجمته الدكتور عدنان إبراهيم، وأعادت إصداره الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان «سورية من دون نفاق».. يذكر ريبول كلاسيك عن هذا الكتاب الذي نشر سنة 2016: «يضع كتاب أركادي فينوغرادوف بين يدي القارئ؛ سورية الحقيقية، وطريقة حياة السوريين، وعقليتهم، وباكتشافكم لهذا البلد؛ ستتأسفون على عدم زيارتكم له حتى الآن..».. واللافت في قراءة الرحالة والدبلوماسي الروسي، وبرغم إصدار الكتاب منذ خمس سنوات، أي في ذروة العدوان على سورية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وإعلامياً، كان لدى أركادي ما يُشبه اليقين حيث يؤكد أن سورية لن تتجزأ كما جرى التخطيط لها، وستكون لها قيامتها التي ستذهل العالم.. ذلك أنّ سورية بلد يمتدُّ تاريخه قروناً في الزمان، وذو تُراث ثقافي وتاريخي غني مُتأصل في تاريخ المسيحية، وهذا ما لم يتحدث عنه أحد اليوم، وقد كتب هذا الكتاب حتى يتمكن الجميع من رؤية هذا البلد المُدهش من جانب جديد ومختلف عن الجانب التلفزيوني..
ويُضيف: أنا نفسي عندما جئت مع عائلتي إلى العمل في سورية، لم يكن في أذهاننا سوى الصحراء والحجارة؛ لكن مع مرور الوقت، تعرّفنا على البلاد، وخلصنا إلى أنّ سورية مخزن من الآثار العريقة والكنوز التاريخية، وخلال خمسة وعشرين عاماً من العمل في سورية، أتيحت لي الفرصة لزيارة أبعد المناطق فيها، وأريد أن أخبر القارئ عن تاريخها وعادات شعبها، ودياناتهم، وتراثهم الثقافي الذي لا يوجد له مثيل في العالم.
فالموقع الجغرافي لسورية على تقاطع ثلاث قارات: «أوروبا، آسيا، وأفريقيا» جعلها دائماً محط أنظار العديد من الغزاة بدءاً من مصر القديمة، والحثيين، وآشور، وبابل، وفيما بعد مقدونيا، روما، بيزنطة، وأوروبا في عصر الحملات الصليبية، ثمّ العثمانيين، وحتى التتار والمغول.. ثم فرنسا في بداية القرن العشرين، إلى أن جاء مؤسس الدولة الحديثة الرئيس حافظ الأسد، ومن ثمّ الرئيس بشار الأسد، اللذان لم تترك لهما الولايات المتحدة الأمريكية مع رؤوس حربتها في المنطقة من صهاينة وأتراك الفرصة لتحقيق نهضتها التامة جغرافياً واقتصادياً وثقافياً..
يقول أركادي عن دمشق؛ يُمكنك التحدث عنها إلى ما لانهاية، ومع ذلك لا يستطيع الزائر لها لأول مرة أن يستوعب على الفور هذه المدينة المُدهشة، ولو واحد بالألف من تلك المعلومات التاريخية التي تختزنها حتى الحجارة التي بُنيت منها جدران القلاع والمباني القديمة، ورصفت الطرق التي مشى عليها العديد من الغزاة منذ أكثر من ألفي سنة.. دمشق التي كان أول ذكر لها في البرديات المصرية القديمة في القرن الثامن عشر، حيث كانت في البداية عاصمة الدولة الأشورية، ومن ثم لقرونٍ عديدة وقعت تحت الاحتلال، لكنها ظلت دائماً مركزاً لتجارة الشرق وحرفه وثقافته.. دمشق التي هي أجمل العواصم العربية، وأكثرها خضرةً؛ تقع عند سفح قاسيون، ومحاطة بواحة الغوطة من جوانبها الثلاثة.. كما لم يوفر الباحث الروسي الإسهاب كذلك في وصف معلولا وصيدنايا وحلب واللاذقية وطرطوس، والسويداء، وتدمر، وأفاميا، وشهبا، وعمريت، وأوغاريت.. سواء من حيث الموقع، أم الإيغال التاريخي في تطور المدينة، وقراءة تراثها المثيولوجي والثقافي والاجتماعي والسياحي منذ العصور القديمة وحتى اليوم.
وفي إلقاء نظرة على سورية من الداخل؛ يذكر أركادي: بعد الانتقام من يوغسلافيا والعراق وليبيا، وجهت الولايات المتحدة الأمريكية أنظارها المُفترسة إلى سورية، التي لم تمنحها الراحة لعقودٍ طويلة، وذلك منذ قيام كيان الاحتلال «إسرائيل» سنة 1948م، حيث عدّت سورية مركز المقاومة في المنطقة ضد إنشاء هذا الكيان، وحقيقة الأمر ليس في أنّ أمريكا «لا تحبُّ» سورية، وإنما في أنّ الشركات الأمريكية لا تُمنح الفرصة للمشاركة في التنقيب عن النفط والغاز السوريين، واستخراجهما، ومن هنا السبب في حربها على سورية .. وذلك بتخطيطها لما أطلقت عليه «الربيع العربي»، عندما وزعت المال والسلاح، سواء بالأصالة أم الوكالة عنها، لكل من يُجند نفسه لخدمة غاياتها ومصالحها، من أفراد وكيانات، ودول… ومن ثم قامت بعدوانها الشرس منذ ذلك الحين، ولاتزال إلى اليوم، برغم أن سورية استعادت معظم ما احتله الإرهابيون، وهي ماضية بمساعدة الحلفاء في تحرير أراضيها، لتخوض معركة الإعمار من جديد.