الأسير والرّوائي عصمت منصور: هكذا سرّبت رواياتي من سجون الاحتلال
بعمر السابعة عشرة، اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي ونقّلته بين سجونها ولم تطلق سراحه إلّا في عام 2013 وكان بلغ حينها من العمر السّادسة والثلاثين. اليوم، وبعد صبر وصمود ونضال ما يزيد على العشرين عاماً في سجون الاحتلال يزور الرّوائي والمناضل الفلسطيني عصمت منصور سورية منتصراً ومحتفلاً بنصرها العظيم.
وفي سجون الاحتلال، تحدّى منصور العتمة والتعذيب والظلم وانعدام الاستقرار، واستمع لنصائح الأسرى الأكبر منه سنّاً وبدأ بالقراءة وبتعويض ما فقده من علم، يقول: في سجون الاحتلال كانت الثّقافة والكتابة أولوية لدينا، فالأسرى خلقوا جوّاً ثقافياً وتعبوياً وتربوياً قوياً جداً، وتربّينا على أدبيات سبقنا إليها من دخل هذه السّجون قبلنا، حيث كان ممنوع عليهم إدخال الأقلام أو الأوراق، فقط كان مسموح لهم بإدخال القرآن الكريم أو الإنجيل، وهذه أداة أخرى لفرض سيطرة الاحتلال على الأسرى ومحاولة تفريغهم من أي شيء، لقد كان يدرك أنّ الثّقافة القومية والتّقدمية والإنسانيّة للأسرى هي التي تطوّر قدرتهم على حمل رسالة الشعب وهي رافعة من روافع صمودهم وحمل رسالة شعبهم، ولأنّ قراءة التّجارب العالمية والثّورات تخدم قضيتنا بشكلٍ أفضل؛ طالب أوّل إضراب في السّبعين بالسّماح بإدخال الأوراق والأقلام للأسرى، وكذلك الكتب والصّحف التي كانت ممنوعة بشكلٍ تام باستثناء الصحف العميلة للاحتلال، وهكذا بدأت عملية إدخال الكتب بالتّدريج وهذا ماخلق فرقاً كبيراً داخل السجون، واليوم نشهد وضعاً مختلفاً، فهناك مكتبات مهمّة وهذا كلّه انعكس على الحالة النّفسية للأسرى ونتاجاتهم..
وبالحديث عن مواضيع الكتب التي كان يسمح بها الاحتلال، يقول منصور: في البداية كانت الكتب محددة وكانت تدخل عن طريق الصّليب الأحمر وتتنوّع بين الشّعر والرّواية، لكن لم يسمح الاحتلال بكلّ الأنواع الأدبية العالمية، فقد كان حريصاً على منع كلّ ما فيه تحريض على الثّورات، لأنّه كان يركّز كثيراً على مسألة التّحريض، فكان الصليب الأحمر يقدّم لائحة بأسماء الكتب ويعرضها على إدارة سجن الاحتلال الذي يختار ما يناسبه، ومع الوقت سمحوا لنا بإدخال الكتب وخفّت الرّقابة نوعاً ما، وصار بإمكان الأسير أن يدخل كتاباً أو اثنين، وأحياناً ثلاثة أو يستبدل الكتب، إضافةً إلى أننا كنّا نهرّب بعض الكتب الثّمينة والثّورية، حيث كان يتمّ تغليفها بغلاف كتاب مسموح أو نحذف أو نضيف بعض الصّفحات، أحياناً كانت تنجح المحاولة وأحياناً لا، مضيفاً: وكنّا ننسخ الكتاب تحسباً من أن يقع بين يدي السّجان، لاّن هذا يعرّض الأسير للعقوبة حيث يمنع من الحصول على الكتب أو الزّيارات أو إدخال الملابس.
ويتابع منصور: بدأت اكتشاف متعة القراءة، وتعرفت على عوالم جديدة، وعملت على تطوير ذاتي كما أني صرت أكتب بمجلات السّجن عن الاحتفال بذكرى رحيل الشهداء وأسسنا مجلات عدّة، وأقمنا ملتقيات أدبية وتبادلنا النّصوص الشّعرية والقصص وتناقشنا بها، وفي عمر الثالثة والعشرين أسست أوّل مجلة عن أحد الشّهداء وطبعناها خارج السّجن.
ويتحدّث منصور عن مرحلة صعبة في سجون الاحتلال تزامنت مع كتابته أول دراسة تحليلية، يوضّح: في عام 2009 تعرّضنا لضغط كبير وكانت الحرب على الأسرى على أشدّها وعيّنوا مسؤولاً عن السّجون من الحاقدين، وكانت مهمته ترويض الأسرى فبدأ بإجراءات القمع وكنت في الأعوام 2003 و 2004 و2005 ممثلاً لأسرى سجن عسقلان، فقام مدير السّجن بعزلي وحينها كانت أولى تجاربي بالكتابة بشكل احترافي وكانت دراسة تحليلية بعنوان: “عهد جديد ورهيب” عن الأسرى والعنف المرتكب بحقّهم، حيث أردنا تثبيت نظام ثقافي وتنظيمي ووطني، مضيفاً: دراسة كهذه لا تستغرق معي أكثر من أسبوع، وكحد أقصى أسبوعين فأنا أكتب بسرعة، لكن الكتابة بحاجة لاستقرار وهذا ما لم يتحقق، فبعد عزلي وعودتي إلى السجن، تقصدوا تنقيلي بين السّجون، فبنظرهم العزل ليس كافياً، بل التنقل وعدم الاستقرار هو العقاب الحقيقي، فكيف أكتب رواية وأنا كلّ شهر أحمل حقيبتي وأصبح في سجن جديد؟!
وهكذا مرّت سنة صعبة لم أستطع فيها كتابة شيء على الورق، لكن كلّ شيء كان في ذهني إلى أن تمّ وضعي في سجن بئر السّبع، وبدأت الأمور تهدأ قليلاً.. بدأت بكتابة رواية اسمها “سجن السّجن” وهي عن تجربتي في الزّنزانة، لكنّي لم أكتب كما يكتب البقية عن قوّة الأسير فقط، بل كتبت عن لحظات ضعف وحالات إنسانية يمرّ بها، حالات شارف فيها على الانهيار لكّنه خرج منها بعافية وربّما بقوّة لا تقلّ عمّا كان عليه، أردت أن يتماهى القارئ ويتعاطف إنسانياً.
ويبين منصور: هذه الرّواية هرّبتها من السّجن على شكل رسائل وكبسولات بخط صغير جداً لتشارك بمسابقة أقامتها وزارة الثّقافة الفلسطينية، وعلى الرّغم من ترددي وخوفي الرّهيب حينها وكثرة المتقدمين فقد نالت هذه الرّواية المركز الأوّل، وطبعتها الوزارة ووزّعتها، كنت أكتب والضّوء خافت من السّاعة الثّانية عشرة ليلاً وحتّى الصّباح، وكلما كتبت ورقة أعطيها لزميلي لينسخها ويضعها في غرفة ثانية ونترك نسختين، وهكذا استطعنا حمايتها وتهريبها، لقد كانت هذه الرّواية موضوع جدل ونقطة تحوّل في كتابتي للرّواية وكانت موضوع رسائل دكتوراه، لكنّ للأسف لم يبقَ منها نسخاً حتّى في وزارة الثّقافة، والنّسخة الأصلية موجودة لديّ بخطّ اليد.
بعد “سجن السّجن”، كتب منصور “فضاء مغلق”، وهي مجموعة قصص ونصوص حول موعد الزيارة، أي اللحظة التي يخرج فيها الأسير من السّجن وتدخل عائلته إليه، يقول منصور: يقوم جنود الاحتلال بتفتيش الأهل والتّضييق عليهم، وهنا يصير الأسير خارج السجن من خلال أسئلته عنه وعمّا يحصل، وكذلك الأهل يسألون عن حاله داخل السّجن، وهنا تحدث أمور وتناقضات غريبة، كأن يأتي ضرير لزيارة ابنه ويمرّ الوقت من دون أن يجد سماعة الهاتف إن لم ينتبه إليه أحد الزّوار.. وغير ذلك الكثير من المواقف الإنسانية المحزنة.
أمّا في روايته الثّالثة “سلك” فيسلّط منصور الضوء على حصار أهل غزة وعلى ما صار اليوم جداراً الكترونياً، يقول: لاحظت في بداية دخولي الأسر أنّ هناك تأكيداً على مصطلح السّلك لا الحدود أي كيان الاحتلال اصطناعي وإلى زوال، ولا يمكن الاعتراف به ، وكان هذا نوعاً من المقاومة المعنوية والنّفسية أيضاً.
لم يكن لدى منصور جو خاص للكتابة كما يفعل من يتمتع بحريته، لا مقهى يذهب إليه ولا شرفة يطلّ منها على شارع يعج بالمارّة والأحداث والأفكار لروايات قادمة، يوضّح: كنت عندما أبدأ بالكتابة أكتب ومن دون انقطاع، كنت أتمشى ساعة مع الأسرى ومن ثمّ أقول لهم: انتهى وقتي معكم وأسير وحدي وأرتب الأفكار في ذهني، لأنّي إن انقطعت عن كتابة شيء لا أعود إليه، وكانت كلّ رواية تستغرق شهراً من وقتي.. وفي المجمل رواياتي ليست بالرّوايات الضّخمة، وكنّا كما سبق وذكرت نهرّبها إلى خارج السجن ويتكفل الأصدقاء في الخارج بطباعتها وتوزيعها.
هكذا هم أصحاب الإرادة يسيرون بخطا واضحة وثابتة لا شيء يثنيهم عن طموحهم ومبادئهم، لا قوّة السّجان ولا حديد السجن، وما فعله عصمت منصور لم يفعله كثير من الذين يتمتعون بكامل حريتهم، يقول: أنا حتّى اليوم أمشي وأفكر بما سأخطّ على الورق، ومشروعي القادم سيكون عن مرحلة ما بعد الأسر وصعوبة التأقلم مع الحياة خارج السّجن.