انعطافة في مسار الصراع

أحالت أحداث انتفاضة القدس التي اندلعت مع مطلع شهر رمضان كل قواعد ومحددات الصراع التي ارتسمت على مدار العقود السابقة إلى التقاعد، وباتت المعادلات الجديدة رهينة بقبضة الفلسطينيين الذين توحدوا كما لم يكونوا منذ العام 1987، والمحاصرون باتوا هم من يحاصرون أولئك الذين مارسوا ذلك الفعل عليهم منذ خمسة عشر عاماً كانت أشبه بحرب إبادة جماعية.

في جردة حساب سريعة لمخرجات انتفاضة القدس التي أتمت شهرها الأول يمكن القول إن المكاسب جمة، وفي الذروة منها إفشال مشروع تهويد القدس الذي كانت مرحلته الجديدة قد انطلقت من حي الشيخ جراح مؤخراً، والأمر يحمل بين جنباته تأكيداً على عروبة القدس التي ستظل عاصمة أبدية لفلسطين، ومنها، إسقاط خرافة اندماج فلسطينيي الـ1948 بالكيان الإسرائيلي، حيث سترمز تصريحات قادة هذا الأخير التي حذرت من قيام “حرب أهلية” إلى تقديرات كانت بحكم الحاسمة لدى هؤلاء لجهة نجاح عملية الانصهار الديمغرافي بين المكون الأصيل وبين الدخيل، وعليه كنتيجة فإن الرهان على “يهودية الدولة” بات رهاناً خاسراً، ولم يعد بالإمكان العمل على ترسيخ تلك الهوية التي كان طرحها قبل عامين مؤشراً على قراءة تتبناها غرف صناعة القرار الإسرائيلي، ومفادها أن الهوية الوطنية الفلسطينية دخلت طور التلاشي والزوال.

ميدانياً يمكن القول إن ما تكشف لا يقل أهمية عن سابقه السياسي، فنظام الردع الذي قام على “القبة الحديدية” فشل، بل إن هذه الأخيرة، التي تساقطت الصواريخ على بعد أمتار منها، لم تستطع حماية نفسها لكي تستطيع حماية باقي الأهداف التي نصبت لحمايتها، ومع هذا الفشل يأتي الإعلان عن انتهاء هدوء واستقرار المستوطنات الإسرائيلية على كامل أرض فلسطين المحتلة، فمشاهد الهروب الجماعي للمستوطنين من جحيم الصواريخ، ومعها تراكض الآلاف في تل أبيب نحو الملاجئ هرباً من الجحيم عينه، كانا قد وضعا جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام حالة عجز خانقة جعلت صورته تهتز أمام جمهوره الذي باتت ذاكرته بحاجة إلى عملية غسل قد تحتاج إلى وقت طويل لزوال تلك المشاهد منها.

على المدى البعيد، ما يمكن وضعه في خانة المكاسب الإستراتيجية، يمكن القول إن انتفاضة القدس قد أرخت بظلالها على مشروع القناة الإسرائيلية البديلة لقناة السويس الذي خرج إلى العلن مؤخراً والقاضي بشق قناة موازية تربط ما بين مينائي عسقلان وإيلات، هذا المشروع الذي يبدو أن ملفاته كانت طي الأدراج بانتظار التمويل باتت الشكوك حوله تثير المخاوف لجهة حالة عدم الاستقرار التي فرضتها الانتفاضة، ما سيؤدي بالضرورة إلى مراجعة “الممولين” الجدد لحساباتهم التي ستكون غير ما قبل رمضان 2021.

الحرب الدائرة اليوم على امتداد الأراضي الفلسطينية ليست عبثية، وإنما تعبير عن إرادة شعب جبار استطاع أن يطوع الحصار فيحيله إلى واقع من القوة، وهو يستند إلى هوية حضارية متجذرة على أرضها منذ آلاف السنين، والمؤكد أن الوقائع الجديدة سوف تفرض نفسها على ضفاف الصراع خصوصاً منها على الضفة التي كان يتراصف فيها أولئك المشككون في جدوى التصدي لكيان استيطاني قام على قهر وإذلال الشعب الفلسطيني، حتى بات ذلك القهر يمثل ركيزة بقائها حتى اليوم.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار