قائد «الربيع العربي» يهجو ربيع القدس

تهيمن على الرأي العام بما فيه الأوروبي مقولة شبنهاور التي شكلت عنوانا لإحدى محاولاته: فن أن تكون دائما على صواب. وهذا ما يمنح لصناع الزيف في العالم أن لا يفقدوا الأمل في القطيع ، وبه يصنعون معجزة الصمود أمام الحقيقة والعدالة. وتمثّل الميديا دعامة أساسية لهذه المقولة، إنها باختصار مقولة تدور حول المغالطة. هذه الأخيرة هي شبيه مزيف بالحقيقة، وهي في كل الأحوال تلعب على زمن الوعي. لكي يلتفت المتلقي إلى اعورار الخطاب يحتاج إلى ما أسميه بالزمن الموضوعي لاستفاقة عقل الجمعي.
ما هو الزمن الموضوعي لكي ندرك بأنّ قادة “الربيع العربي”- والمقصود بهم هنا، من احتلوا بعد أسابيع المشهد وقطفوا الثمار: الأصوليات الأطلسية الهجينة والوظيفية- هم واسطة فسخ ونسخ ومسخ، في جيوبولتيكا قوامها الجهل المركّب بالأوْل والمآل؟
ومع ذلك يحاول دهاقنة الربيع نفسه أن ينقضوا مرة أخرى على ربيع الممانعة في القدس، كما لو أنّهم في قلب المعركة، التي لو كانوا فيها حقا لما زادوكم إلاّ خبالا. ولكن ذيل الآية يؤكد على مفهوم له علاقة بالمغالطة:(وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، وهذه هي واحدة من مداميك العود الأبدي إلى مربع الهزيمة.
حين أكد الغنوشي، وهو هنا فقط مثال حيّ عن هذا التلاعب بالخطاب، بأنّ انتفاضة القدس هي تجديد أو إحياء “للربيع العربي”، فهذا من باب فن أن تكون على حق دائما. المستهدف بهذا الخطاب هم قوم لم يولدوا بعد، أو جيل لم يبرح طور الحفّاظات، وحتما هم لا يستهدفون من أحاط بهم خُبرا. ونحن غير معنيين بشيء في نظرهم، لذلك لا يفتأوا يتآمرون بتنسيقيات غبية إقصائية دكاكينية، بمراصد لقلاقية، ففي النهاية هم رجال يحفظون عن ظهر خشم كتب السير والمغازي: ومن دخل دار أبا سفيان فهو آمن.
ربيع برنار هنري ليفي لا مكان له في ربيع الممانعة، وحتى لا تطوى صفحة تاريخ أرخنا له استباقيا قبل أن يستيقظ اللّقلاق ويتعثر في طريق البحث عن لغة ثانية تقتضيها المرحلة. فيلسوف “الربيع العربي” من بلاد الفرنجة علّق على ما يجري في الأراضي المحتلة بدعوة فرنسا، هذه المرة ليس لإقناعها كما فعل مع ساركوزي بالتدخل في ليبيا، ولكن لأن “تقف إلى جانب إسرائيل” في هذه المواجهة. ويعلل دعوته تلك بأنّ المعتدي هو حماس بصواريخها. ويبدو أن جزء من المغالطة الرائجة هذه الأيام هو اختزال انتفاضة الشعب الفلسطيني في صراع بين إسرائيل وحماس، مع أنّ هذا يدخلنا في تعقيد لسنا الآن في وارده. فبرنار هنري ليفي الذي شارط كل الجماعات الأصولية المسلحة بأن يهدموا ما شاء لهم من كيانات عربية ولكن أن يؤمنوا بديمقراطية إسرائيل، يعيد الكلام نفسه بدعوة فرنسا للوقوف إلى جانب ما سماه بـ” ديمقراطية عظيمة، إسرائيل”. ويبالع برنار هنري ليفي في هذا الاختزال حينما يعتبر أن جوهر النزاع هو أنّ الفلسطينيين الذين يقع عليهم الاحتلال، يكرهون إسرائيل واليهود. فهو مع إقحام البعد القومي والديني يحرف الصراع عن أسبابه التاريخية، كما أنّ كراهية الفلسطينيين للمحتل ليست بدعا في تاريخ كفاح الشعوب، فمن الطبيعي أن الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال سيكره المحتل .
برنار هنري ليفي هذا هو قائد خطاب الربيع العربي والذي سهّل عملية تسليم زمام الأمور إلى الأصولية الوظيفية للإسلام الأطلسي، ونسج أمتن العلائق مع سُلالات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وإن توشّحوا عناوين جديدة. لعل من مفارقات زمن الرقص على حبائل الحقيقة، أنّ لقلاق المرصد نبهنا بغباء إلى نشاط برنار هنري ليفي، محذرا ومنذرا، مع أنّه أخ من الرضاعة لحلفائه الاستراتيجيين؛ إنه فن أن تكون دائما على صواب ولو كنت (طير بقر) مرصد ماشافش حاجة.
ليس الصراع القائم اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، صراعا دينيا، فهذا تفصيل عارض على جوهر قضية تتعلّق بالاحتلال. كما أنّ حماس ليست وحدها في الميدان، ولو تحولت إلى سلطة فستجد الشعب الفلسطيني يبحث عن بديل. إن اختزال الصراع في هذا التفصيل، محاولة للإساءة حتى وإن كانت البروباغاندا تحاول أن تزكّي هذا الاختزال الخاطئ.
شخصيا يصعب عليّ أن أفهم ما معنى أن يقول الغنوشي بأننا ملتزمون بواجبنا تجاه فلسطين؟ وكيف يمكن تجاوز مستحقات ربيع هنري ليفي نحو ربيع القدس؟هؤلاء يستخفون بعقولنا، ويعتقدون أنّنا جزء من رأي عام بطيء الوعي والإدراك، بل بيننا وبينهم مرتبتين في سرعة الإدراك: وعي حادّ بدبيب المغالطة برهانيا، وسرعة فائقة في مسالك حدس الحقيقة، فأين يذهبون؟ لا يكفي اعتمار الكوفية حدّ التعفّن في مشهد للبوز لكي تكون مناضلا، ولا يكفي ركوب الحمار في البراري لكي تكون أنتروبولوجيا (تهريجيا) ولا تكفي الخنخنة لكي تكون خبيرا استراتيجيا.
انخفضت حماسة ما يسمى “أصدقاء الشعب السوري ” وبطولات الأصوليات الزائفة التي دشنت عهد النضال بالمراسلة وأصبحنا إزاء مسلسل من اللُّتيّا واللّتي. بالمختصر المفيد، انتهى الفيلم الهندي، وأسدل الستار عن مسرحية “مرصد ما شافش حاجة”!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار