“على صفيح ساخن”يغلي بالإتقان والأخطاء..!
نَسَجَ مسلسل “على صفيح ساخن” خيوطاً وشخصيات درامية تقارب للمرة الأولى في الدراما التلفزيونية السورية، وتحركت أغلب الشخصيات في مكان بكر تتم مقاربته درامياً لأول مرة، ما حقق حوافز وافرة للمشاهدة منذ الحلقة الأولى التي أُتقِنت كل عناصرها، فاصطاد المسلسل أنفاس المشاهدين وزرع فيها شتلة التشويق التي سقيت بكل مشهد فنمت شيئاً فشيئاً ضمن كل حلقة. تحقق كل ذلك بسيناريو رشيق جداً من جهد الثنائي علي وجيه ويامن الحجلي، والمخرج سيف سبيعي، وفريق التمثيل، والفريق الفني للمسلسل، الذي حصد متابعة وإعجاباً يليق به. ونشير أولاً إلى الاستخدام الموفّق لتقنية الاسترجاع “الفلاش باك”، في مقدمة كل حلقة لتضيء ملامح الشخصيات وأفعالها وانفعالاتها، وما يحدث لها، وكان مناسباً لكل شرائح المشاهدين بتفاوت ثقافتهم البصرية، وكسر من رتابة خيطية السرد، المنسوجة على بطولة جماعية اشتقنا كمشاهدين لها، جسدها لنا فريق التمثيل بكل أبعاد شخصياتهم، فتعاطفنا معهم حين حزنوا وبكوا، ونال الزعل منهم، وحين غضبوا، وانقهرنا لقهرهم، وتألمنا لألمهم، واشتعل الخوف بنا عليهم، وضحكنا حين استعاد بعضهم حقوقه، وارتاحت أعصابنا حين نال من يستحق القصاص نصيبه، إلى آخر ذلك، فحصدنا المتعة التي ننتظرها.
دينامو الصراع
أتقن الثنائي “علي ويامن” الإمساك بأساس الصراع بين شخصيات العمل، الذي هو أساس الصراع بين البشر، ألا وهي دناءة الإنسان لما يحوزه شقيقه الإنسان، وأنانيته في حب التملك وشراهته للمال مهما امتلك. فإن تأملنا شخصيات العمل لوجدنا أن الدناءة هي التي تحرك أفعالها. وأولها الصراع بين ” أبو كرمو/ عبد المنعم عمايري” و ” أبو كفاح/ محمد قنوع” الذي اكتشفنا بعد أكثر من نصف حلقات المسلسل بأنهما شقيقان. وبين ” الطاعون/ سلوم حداد” محرك الصراع مع أكثر من شخصية، أولهم ” الآغا/ عبد الفتاح مزيّن”، وبينه وبين ” عيّاش/ يامن الحجلي” من جهة أخرى، وبين ” الطاعون” وابن أخته ” هلال/ باسم ياخور”، ثم بينه وبين ” رامز ودارين” مهرّب البلاستيك، وموظفة المصرف، وقد تآمرا عليه وسرقا منه رصيده في البنك، وبينه وبين ابنته ” تمارا/ جنى عبود” التي لا يعتني بها جيداً وبينه وبين أهل زوجته المتهم بقتلها، وبينه وبين شغيله “رواد/ سليمان رزق” الذي يحب ابنته ورفض تزويجه إياها. ولا يخفى على أحد دناءة ” الخفاش/ عبد الرحمن قويدر” الذي يلعب على كل الحبال لأجل مصلحته. هؤلاء من مجتمع الإتجار بالمخدرات، ومن مجتمع جمع القمامة وإعادة تدويرها وفق أصنافها. وكذلك ” نسيم/ سيف سبيعي” وسرقاته من وزارة الصحة بمفرده أو بالتعاون مع ” طاهر/ يزن خليل” الذي تخلى عنه كرمى ابنة عمه عندما أخبرته بأن نسيم يخونها، وما فعله طاهر بأبيه (سليم صبري) الذي تزوج مرة ثانية، وخوفاً من مجيء شقيق يقاسمه الملكية، بات يسقيه دواءً أصاب أعصابه، وكاد أن يأخذ حكماً بالحجر الصحي عليه، كل ذلك لأجل أن يستولي على الثروة وحده، ويحرم أولاد عمه أيضاً من استعادة حقهم بالأرض، لولا أن شقيقته ” ريما/ علياء سعيد” التي عادت للبيت بعد أن شكك زوجها “هاني/ ميلاد يوسف” بأخلاقها، فتنبهت لملعوب شقيقها وبأنه يداويه على يد طبيب مزيف فأوقعتهما في قبضة العدالة. وريما شخصية هادئة لا تشغلها المادة بل هي تسعى لكشف الفساد بأي شكل جاء، من خلال عملها كصحفية في إذاعة خاصة. ولا ننسى حال الطبيب (جمال قبش) صاحب مركز التجميل واستغلاله لتلميذه الطبيب هاني، بصرف راتب أقل بكثير مما يستحق لقاء جهده، واستغلال مهارته في إنقاذ زوجة أحد المسؤولين الأثرياء مدعياً أنه الذي أنقذها فسرق له المكافأة وهي سيارة فخمة. كذلك شخصية “هند/ أمل بوشوشة” التي حاولت في غياب شقيقيها التفريط بالأرض المرهونة لدى عمهم مقابل بعض المال، وحين تنبهت إلى إعجاب زوجها بزوجة شقيقها، وأنه تعاطى أدوية لعدم الإنجاب منها، مضت تبحث في أوراق عمله من اللابتوب الخاص به لتكتشف تجاوزاته فتدخله السجن، ثم أوقعها المال تحت سطوة ” أم كرمو/ ناظلي الرواس” فساعدتها في شراء عقارات لصالح الجمعية ، بحجة تقويم المجتمع.
وبالتوازي مع هؤلاء: “هلال/ باسم ياخور” وشقيقه ” هاني/ ميلاد يوسف” وشرههما لامتلاك المال رغم أن وضعهما المادي ليس سيئاً، وفق اعتراف هلال للخال الطاعون في الحلقة 23 أنه في يوم ما (كانت المصاري تلعب بين إيدي لعب وليس التعتير ممشاي) لكنهما عادا بخفّي حنين من مغامرة الهجرة بعد أن تم النصب عليهما. فبحث هلال عن النصّاب الذي دفعته أيضاً شراهته للمال، للقيام بفعلته. وعندما استدل عليه تورط بقتله، مع صديقه ” مسعود/ وائل زيدان” وابن عمه ” حازم/ شادي الصفدي”، وبالتالي تورط هلال مع أب كرمو في بيع المخدرات، وهو بالأصل لديه أرضية فساد عندما تواسط لمسعود يوم كان يعمل بالسياحة ومنع لجنة من تفتيش الفندق، وكان هذا قبل مغامرة سفره.
فثمة زخم هائل من الصراع بين شخصيات المسلسل، وإن تعدد لكن الجوهر ذاته، حب المال والتملك.
حديقة معنويات
لكن المسلسل لم يخلُ من التأكيد على المعنويات، وأهميتها في الحفاظ على بنية أي مجتمع، وكان له أكثر من خيط أولها الحضور الدائم لشخصية أبي “عيّاش/ سعيد عبد السلام ” الذي طالما نبّه ابنه “عيّاش/ يامن الحجلي” إن أراد فعل الشر، وإرشاده على الطريق السليم وخاصة في مسألة تصديق زوجته السابقة ” سعاد / تسنيم باشا ” بأن الولد الذي أنجبته بعد أن تزوجت مرة ثانية هو منه، كما أضاء المسلسل ذلك التعامل الإنساني من الزوج الثاني للولد الذي ليس من صلبه، واستعداده لمواصلة تربيته ليس لمرضه الذي شُفي منه بل لصدق إنساني منه في تعامله مع زوجته، ولأجل والدته التي تعلّقت بحفيدها. والجانب الخيّر الذي توجه إليه ” الآغا/ عبد الفتاح مزيّن” بعد محاولة قتله، في نهي عيّاش عن القتل رغم أنه من أشعل نار الثأر لديه بأن والده قتل بيد الطاعون. كما أنه احتضن شغيل الطاعون ” رواد/ سليمان رزق ” وزوّجه من ابنة الطاعون ” تمارا/ جنى عبود” رغماً عن أبيها، واستضافهما ببيته، وكأنه يكفّر عن ماضيه. وتشجيعه لعيّاش في تقديم شكوى لأحد ضباط الشرطة ضد الطاعون لقتله والده، كإحقاق لسلطة القانون واستبعاد شريعة الغاب.
كما شاهدنا هند تصحو في وقت مناسب بعد أن يشترط شقيقها هلال على أبي كرمو إبعادها عن العمل دون أن تدري. وصحوتها هذه أعادتها لحضن العائلة، فتساعد شقيقها هاني بالحفاظ على أسرته، إذ أكدت له براءة زوجته من ظنونه. والأهم من كل ذلك هلال الذي تلوثت روحه بالدم والتهريب والإتجار بالمخدرات، يساعد الجميع على بداية جديدة ويسافر لتنقية روحه.
استعادة الشمس
ما سلف قبسات من مجتمعنا الذي آلت حياة معظم الناس فيه صعبة وملوثة بالفساد، لكن المسلسل أشار وبذكاء لشريحة ظلمتها ظروف سابقة وسلبت منها الكثير من حقوقها المادية والمعنوية مرمزاً لها بشخصية ” شمس/ سمر سامي” التي تألقت وتأنقت بتأديتها الفنانة سمر كعادتها وهي من ساعدت هلال ببداية جديدة لحياته بما أورثته من مال، ليقول المسلسل من خلالها، لا حياة لمجتمع بدون صفاء في السلوك وفي أساس الثروة التي ستبني منها مستقبلك أيها الإنسان.
خيمة الأخطاء
الموضوعية تقتضي ذكر الأخطاء من وجهة نظرنا، ودافعنا حب جهد الكاتبين، فأول الأخطاء أن الزمن عندهم في المسلسل غائم، مع أننا كدنا نرسم بدايته منذ عشر سنوات مضت، وفق حدث المغامرة بسفر هلال وشقيقه، إلاّ أن محاولته مرة ثانية الهروب مع عائلة شقيقه وشقيقته، أكدت أن الزمن هو في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الأخيرة المتعددة الأسباب التي نعيشها، اتضح ذلك من تصريح هلال للضابط الأمني جارهم عندما طلب منه مساعدة، لكن حدوث تفجير في المطعم في نهاية أحداث المسلسل، وتعطيل تفجيرات مماثلة في أماكن أخرى، جعل الزمن بلا هوية فعن أي تفجيرات يشير لها المسلسل؟ وعن أية اعتقالات لرجال متنفذين داعمين لمدعي دين فاسدين يتحدث المسلسل؟ لو حدد الزمن في بدايات هذه الحرب على سورية لكان أكثر توفيقاً، لكن وفق ما شاهدنا سيتساءل مشاهدون كثر عن هذا الخلل بين الدراما والواقع. فالرمزية هنا غير موفقة كما في رسم شخصية شمس.
ومن غير المقنع درامياً أن نشاهد الصحفية “ريما/ علياء سعيد” تتحدث عن أحد الذين تجاوزوا القوانين بعد أن أصابت طلقات سلاحه العشوائية أحدهم فقتلته، مشيرة إلى أن ثمة من يريد لفلفة القصة، نشاهد حضور الشخص فوراً للإذاعة وتهديده بإقفالها، ولم ينسحب إلاّ بعد التهديد بكشف اسمه على الهواء..! ما يجعلنا نتساءل ما هذه المصادفة لاستماعه للبرنامج في اللحظة ذاتها ومروره من مقر الإذاعة أيضاً، فهل للسينما الهندية أي تأثير ؟!.
كما نشير إلى أن تفتيش غرف أي فندق، من اختصاص الشرطة الجنائية، لا وزارة السياحة كما ورد في المسلسل، فالتفتيش خوفاً من تستر موظفي استقبال أي فندق على مجرم ما، فبعد اطلاعها على “مانيفست” الحجوزات، تطلب مفاتيح الغرف الخالية لتتأكد من سلامة العمل. أما وزارة السياحة فتجري كشفاً آخر على موجودات كل غرفة وما يجب أن يتوافر فيها، لمطابقته مع التصنيف السياحي الذي حصل عليه مالك الفندق وتم إشهاره لاستقطاب النزلاء، وهذا كشف لا يتطلب الخوف الذي قدم في المسلسل. ومن جهة أخرى المسلسل قدم لنا الفندق وكأنه يعمل ذاتياً فليس به سوى موظف واحد، كان يسيّره “مسعود” وعندما عزله أبو كرمو استلم “هلال”، ولم نرَ سوى في مشهد واحد رجلاً آخر، فكان قسم الاستقبال أو الفندق خالياً كلياً، دون أحد فكيف كان يعمل؟ فكما يعرف نزلاء الفنادق أن البطاقات الشخصية وجوازات السفر الخاصة بهم تظل في قسم الاستقبال، فهل كانوا يغادرونه ويتركون حساب مبيتهم ويسترجعون بطاقاتهم، بالخدمة الذاتية..؟! وكنا قد أشرنا في مقال سابق لخطأ التخدير العام لمريض يخضع للقثطرة وزرع شبكة، وفق ما تعرضت له شخصية نسيم، وما تبع ذلك من هلوسة واعترافه بعشقه لريما، ما جعل أفعال زوجته هند تذهب باتجاه أدت به للسجن، وكادت أن تهدم علاقة ريما بزوجها. وهي عملية بسيطة تجرى بالتخدير الموضعي ولا يفقد المريض السيطرة على وعيه.
وجاءت خاتمة المسلسل غير مقنعة بل تؤكد تغييبه للرقابة طوال فترة الأحداث عن عمالة الأطفال في نبش القمامة ومخالفة القوانين، بينما اهتم المسلسل بمشغليهم وأطماعهم وصراعاتهم فقط. كما هي غائبة عن مراقبة تجارة المخدرات، وكذلك عن الجمعيات غير السوية بسلوكها وأهدافها، وأنه لولا وشاية هلال لما تنبهت هذه العين..!