هل تُستعاد ..؟

ساحة العيد المثلى في الحارات الجانبية كانت للأراجيح والقلابات وعربات الحلوى سريعة التّلف! وقد يمرّ بائع «غزْل البنات» ودواليب الهواء فيجذب الأطفال برهةً، بعيداً عن «الملاهي» التي كانت لها روحُ ذلك الزمان الذي تبدّل وما زال يفعل، من دون أن يغير نوازع الطفولة الجامحة إلى مغامرة الفرح! في ذلك الزمن كان الفرحُ، اسمُه العلَم هو العيد! والسرُّ كلُّه في الجديد: الملابس والأحذية والطعام والضيوف والانعتاق من الرّتابة، بحيث لم يكن له منافس إلا بمعجزة تطفر من حدثٍ ما، يقدر عليه شخص فريد، مبدعٌ، مبتكر!
كان بيتُ السيدة، التي استضافتني على قهوة بمناسبة أنني كنت في المكان لإجراء لقاء إذاعيّ، أكثرَ من متواضع وأجمل مما يبدو عليه الباب الخارجي العتيق لأن النظافة والترتيب اللذين يعمّانه بثّا في أركانه الألوان الهادئة واللّمسات الناعمة وموجات من السّكينة، حتى دخل طفلان يطالبان بالحصّالة التي تخصُّهما ليضعا فيها الفرنكات المتبقية من مصروف النهار، فانبريت بحكم المجاملة أمتدح الادّخار وإشعار الطفل بقيمة النقود التي تُعطى له من تعب الكبار والصّبر على جَمْع ثمن القميص الجديد أو… هنا قالت السيدة: – هذه الحصالة خاصّة بمعرض الكتاب السّنوي، منذ خمس سنوات ذهبنا لشراء الكتب وكم كان الإغراء شديداً والقدرة الشرائية عاجزة عن التلبية، بحيث تناقشنا وفاضلنا بين الروايات التي نحبها أنا وأبوهما وبين الكتب العلمية التي يجب أن يقرآها، ولم نستطع حلّ المشكلة بطريقة مثالية، لذلك اتفقنا على أن نستعدّ للمعرض القادم مع الحصالة، وكانت فكرة مدهشة أضافت إلى هذا البيت الثروة التي ترينها على الرفوف هناك في الزاوية! العناية بالمظهر بدهية تقدمنا للآخرين، أما المطالعة فتقدمنا للحياة!
مرّ على هذه الزيارة أكثرُ من عشرين عاماً من دون أن تتعب من الحضور في مواعيد الأعياد والمعارض والمهرجانات والفعاليات، وربما لو سردتها على مسامع أمٍّ في هذا الزمن لاعتبرتني أقترح عليها أن يشاهد أولادها خيال الظلّ أو صندوق الدنيا: – في أيّ عصرٍ تعيشين؟ – أين أنت من عصر الهواتف الذكية والمواقع التي تلبي كلّ فضول؟ أغرب ما تمدحين هو الحصالة التي لم تعد موجودة حتى في سوق «الأنتيكا»! الولد يقف اليوم أمام والديه وهو يملي أوامره: أريد هاتفاً لا تتوقف شاشته وأنا أستخدم «اليوتيوب»! هذا الهاتف العتيق كان «فضلة» استخدامك له خمس سنوات، أريد دراجة، أريد مصروف فرصة المدرسة، أريد هدية لرفيقي في عيد ميلاده.. الزمن لم يتغير بل انقلب وصار أسرع وأكثر نجاحاً في استثمار الوقت!
ما حاجتنا إلى كل هذا الاغتراب؟ ما حاجتنا إلى كل هذا الاستسلام للتيارات تتقاذفنا من دون مقاومة؟ ألا نترك للحنين إلى زمن الصبر وفرح ما بعد الصبر في قطف المواسم مكاناً، نسترد معه شحنات التفكير الجماعي في حلّ مشكلة وما يرافقها من محبة وتعاطف؟ العيد مازال يعود فعسى ألا تختفي معه المعايدة التي تمجّده، بداعي الحداثة!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار