انعطافة في مسار “الإبادة” الأرمنية

دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى العام 1914 إلى جانب ألمانيا والنمسا، وبعد هزيمتها فيها مع الآخرين عمدت السلطات العثمانية إلى الانتقام من الأقليات العرقية التي كان أبرزها الأرمن بذريعة “اشتباه” تلك السلطات بعدم موالاة الأرمن للإمبراطورية العثمانية، وتعاونهم مع الروس في تلك الحرب.

يؤكد مؤرخون أرمن وأوربيون أن مليوناً ونصف المليون من الأرمن قد قتلوا على نحو ممنهج خلال الحملة التي شنتها السلطات العثمانية في 24 نيسان 1915، عندما جرى القبض على عشرات الآلاف من الأرمن الذين قضى غالبيتهم في المعتقلات، فيما جرى ترحيل الباقين من أراض السلطنة ومصادرة أملاكهم بعد استصدار قوانين تتيح القيام بتلك الأعمال، الأمر الذي يعتبر قراراً بالتطهير العرقي وهو صادر عن رأس هرم السلطة.

اتخذت المسألة الأرمنية منذ ذلك التاريخ منعطفات عدة، فمن جهة كانت وثائق التاريخ جازمة بحدوث تلك المجازر، وهي كلها كانت تستند إلى تقارير دبلوماسيين أجانب وعملاء استخبارات ممن عاصروا تلك الحقبة، لكن من جهة ثانية كانت المصالح السياسية والاقتصادية للدول غالباً ما تعطي توصيفات لتلك المجازر أقل حدة من التوصيف الحقيقي لها، حفاظاً على علاقاتها المتشابكة مع الدولة التركية وريثة السلطنة البائدة، وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت علاقة تركيا متوترة مع المجتمع الدولي على امتداد قرن كامل، وهي بنت العديد من سياساتها ومواقفها من الدول تبعاً للنظرة التي تتبناها هذه الأخيرة تجاه المجازر الأرمنية.

لكن ذلك المسار شهد حراكاً لافتاً في الآونة الأخيرة، وخصوصاً منها خلال العقد الفائت الذي شهد ممارسة تركيا لسياسات عدوانية في الجوارين القريب والبعيد على حد سواء، ففي ذكرى إحياء أرمينيا لمئوية المجزرة العام 2015 تحدث بابا الفاتيكان فرنسيس الثاني للمرة الأولى عن “أول إبادة جماعية في القرن العشرين”، وقبله كانت فرنسا قد أقرت قانوناً في العام 2001 تعترف فيه بالإبادة الجماعية للأرمن، وفي العام 2019 أعلنت باريس عن “يوم وطني” لإحياء ذكرى تلك الإبادة في 24 نيسان من كل عام.

الذكرى السادسة بعد المئة شهدت منعطفاً لربما كان الأهم من بين كل تلك المنعطفات السابقة، حيث أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن اعتراف بلاده رسمياً بمذابح ارتكبت بحق الأرمن في ظل الدولة العثمانية ووصفها بـ”الإبادة الجماعية”.

بالتأكيد لم يكن الجزء الأكبر من تلك المواقف انتصاراً لقضية إنسانية، وخصوصاً منها الموقفين الفرنسي السابق والأمريكي الراهن، فالتنافر الفرنسي- التركي الحاصل منذ مطلع هذه الألفية هو الذي دعا باريس إلى اتخاذ ذلك الموقف، أما العلاقة الأمريكية- التركية فقد باتت شائكة ويعتريها الكثير من تضارب المصالح على خلفية التناقض الحاصل في ملفات عدة منها: حصول أنقرة على منظومة إس 400 الروسية، الأمر الذي اعتبرته واشنطن نخراً من النوع الغائر في جسد حلف شمال الأطلسي، وكذا في ملف الدعم الأمريكي لميليشيا “قسد” في الجزيرة السورية، ناهيك عن ملفات أخرى مثل ملف الغاز والنفط في شرق المتوسط وبحر إيجة.

أيا تكن الدوافع الأمريكية وراء اعتراف بايدن سابق الذكر، فإن المسألة الأرمنية، عبره، تكون قد دخلت منعرجاً مهماً سيشكل ورقة ضغط كبرى على أنقرة التي ستجد نفسها أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، الأول هو أن تذهب أنقرة للاعتراف رسمياً بتلك المجازر وتبدي استعدادها لدفع تكاليفها السياسية والاقتصادية التي ستكون باهظة ولا شك، والثاني هو أن تبقى على إنكارها لحدوث تلك المجازر، الأمر الذي سيزيد من التوتر، القائم أصلاً، مع المجتمع الدولي بشأنها، لكنه سيكون هذه المرة بوتيرة أعلى بما لا يقاس عن نظيره السابق.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار