أزمة أم غيمة صيف عابرة؟
كان من الواضح منذ بدء الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي جو بايدن أن العلاقات الروسية- الأمريكية لن تكون بأفضل حالاتها في حال وصول هذا الأخير إلى سدة السلطة في واشنطن، بل إن سقوفها ستنخفض، بما لا يقاس، عن تلك التي استقرت عليها زمن سلفه دونالد ترامب، والوضوح إياه لم يتأخر كثيراً في الخروج فاقعاً إلى العلن، حيث ستبدأ صورته بالارتسام مع خطاب التنصيب 20 كانون الثاني الماضي، ثم مع الكلمة التي ألقاها أمام مؤتمر ميونيخ للأمن بعد شهر من هذا التاريخ الأخير، وبعدهما سوف تكر السبحة التي بدأت أصوات حباتها تتعالى فارضة إيقاعها الذي لن يقف، على الأرجح، عند هذا الرتم الذي وصل إليه.
بعيد أيام قليلة من تنصيب بايدن تفاعلت قضية المعارض الروسي أليكسي نافالني التي كشفت المواقف الأمريكية، منها أن واشنطن تبدي ميلاً لتأجيج التحركات المعارضة لحكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي 23 كانون الثاني الماضي أن إدارة الرئيس بايدن “ستترك كل الخيارات على الطاولة فيما يتعلق بالرد على اعتقال نافالني”، وبعدها بثلاثة أيام سنجد بايدن نفسه وهو يعلي السقف عندما قال: “قلقون بشأن التقارير عن منح مكافآت مقابل رؤوس الجنود الأمريكيين في أفغانستان”.
في مطلع شهر آذار الجاري فرضت واشنطن عقوبات على سبع مسؤولين روس جلهم من الصف الأول، والإعلان جرى تذييله بعبارة أن هذه الرزمة لن تكون هي الأخيرة في هذا السياق، لكن ما شهدته محطة 17 آذار كانت تصعيدية بدرجة لم تكن مسبوقة، ولا متوقعة، قياساً إلى وضعها هذا الفعل الأخير في مسار يقرب من الصعود العمودي للخط البياني الذي رسمت معالمه المحطات السابقة، وفيها كان بايدن قد أجاب على سؤال كانت محطة abc قد وجهته إليه ومفاده إذا ما كان يرى الرئيس الروسي “قاتلاً”؟، أجاب بايدن: “نعم أعتقد ذلك”، ثم أضاف موجهاً حديثه لنظيره الروسي: “سترى الثمن الذي ستدفعه قريباً”.
مثل هذه التصريحات غير معهودة في العلاقات الدبلوماسية خصوصاً فيما بين الدول المضطرة للتساكن بفعل التوازنات التي تستولدها حقائق القوة العسكرية، حتى دونالد ترامب الذي كان يوصف في دوائر المحللين بـ”المتهور” الذي يسارع في إطلاق تصريحاته النارية التي لا تحتملها طبيعة الحدث الذي يعلق عليه، لم يفعلها تجاه نظيره الكوري الديمقراطي الذي لا تقاس قوة بلاده العسكرية بالقوة الروسية، فلماذا قال بايدن ما قاله إذاً؟
مجمل الصورة يقول إن الرتم الذي تسير عليه العلاقة الروسية- الأمريكية هو من النوع غير الخادم للمصالح الأمريكية، أقله من منظور غرف صناعة القرار السياسي في واشنطن، فمعاهدة ستارت 3 الموقعة بين البلدين العام 2010 والتي كانت تهدف للحد من الأسلحة النووية الإستراتيجية الهجومية بنسبة 30%، والتي جرى تمديدها لمدة خمس سنوات أخرى قبيل يوم واحد من انتهاء مدتها مطلع شباط الماضي، ينظر إليها بايدن على أنها التحدي الإستراتيجي الأبرز الذي يواجه إداراته، وتمديدها الذي جرى على مضض، لغياب البدائل، اعتبره الكثيرون انكساراً في مرحلة مبكرة لإستراتيجية بايدن الماضية في رفع شعارها العريض “عادت أمريكا”، ثم إن كل المحاولات التي بدأت منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما لجر موسكو إلى الخندق الأمريكي بهدف احتواء الصين في استنساخ مقلوب لما فعله هنري كيسنجر عندما نجح في زيارته السرية لبكين صيف العام 1971 في جر هذه الأخيرة لاحتواء الاتحاد السوفييتي الأمر الذي شكل ركيزة أساسية في ما لقيه هذا الأخير 1991، كل تلك المحاولات فشلت، ناهيك عن وجود تنافر في المصالح في العديد من الأزمات الإقليمية بدءاً من أفغانستان وسورية ووصولاً إلى ليبيا.
بايدن اليوم سيسعى إلى محاولة “تحجيم” الدور الروسي تمهيداً لدفعه نحو الانكفاء للداخل، والمرجو من هكذا مسعى هو تكرار السيناريو الذي شهده الاتحاد السوفييتي عندما أدت الإنكفاءة السوفييتية في أفغانستان في العام 1988 إلى تداعيات داخلية كان من شأنها تشظي جغرافيا هذا الأخير، ولذا نراه يمضي إلى استعادة الشراكة مع الأوربيين على الضفة الأخرى من الأطلسي التي همشها سلفه ترامب، وكذا يمضي نحو تمدد “ناتو” اقتراباً من الحدود الروسية للضغط عليها جغرافيا.
كنتيجة يمكن الجزم أن الأزمة المتفاعلة في العلاقات الروسية- الأمريكية راهناً ليست أزمة عابرة، والمؤكد هو أن فصولها سوف تتوالى تباعاً قياساً لما تشير إليه المعطيات السابقة، لكن إلى أين يمكن أن تصل فذاك مرهون بعوامل عدة سيكون في الذروة منها تطورات العلاقة مع الصين التي ذكرت مؤشرات الإستراتيجية الأمريكية، المقررة قبل نحو شهر، أنها تمثل التحد الأكبر للسطوة الأمريكية على العالم.