ثمّة اختزان متبادل بين التراب والزمن؛ فالزمن بطبيعته التجريدية القصوى، واندغامه في فكرتي السرمديّة واللانهاية, هو الذي احتضن تكوين التراب الأرضي الذي كان شرطاً أساسياً لنشوء معظم أشكال الحياة التي ترأّسها الإنسان في مرحلة لاحقة من مراحل التطوّر البطيء لكوكبنا الذي كان, في ماضيه السحيق, مجرّد كتلة ضخمة من الصخور الملتهبة التي برّدها الزمن، وهيّأ العوامل المناسبة لتصيير بعضها تراباً قابلاً لإنبات الزرع والشجر, واحتضان عيش بقيّة الكائنات الحيّة التي تزحم كوكبنا الجميل، والتراب في المقابل يختزن عوامل الزمن الدالّة على جميع ما كان حيّاً وغير حي، على حدّ سواء.. الزمن لم يكن مجرّد إطار يحدّ الحياة من الخارج، بل كان عنصراً أساساً مبثوثاً في كلّ التفاصيل الخاصّة بنشوء الحياة وتطويرها، كان هو الخميرة التي تبثّ ذاتها في كلّ ما يتّصل بالنشوء, والتزام السيرورة, وابتغاء المآل.
عندما ذهب أبو العلاء المعرّي – وقبله المتنبّي – إلى أنّ «أديم الأرض من هذه الأجساد» فإنما كان يضع يده على مقبس متين من الحقيقة العلمية التي ترى أنّ تحلّل المواد العضوية, والتفاعلات الكيميائية، والحياة البكتيرية, هي العوامل التي أنشأت تربة الكوكب, عبر ملايين السنين، وهذه أمور معروفة على نطاق مدرسي, ولكننا جميعاً, نحتاج دوماً إلى مراجعة دروسنا بين الحين والحين؛ ومن ذلك, تثمين قيمة المدفون في ترابنا الوطني السوري وامتداداته في الاتّجاهات كافّة. وأثمن المدفون ماثل في الزمن ذاته، الزمن هو الذي يدفن كلّ شيء, ويبقى خالداً إلى حدّ مستعصٍ على مداركنا البشرية الراهنة؛ الكائنات الحيّة، وغير الحيّة، يختزن جميعها كمّية (ما) من المادّة الزمنيّة، وعندما يحتضنها التراب فإنّما يختزن ما كانت تختزنه المادّة الحيّة من مادّة الزمن التي تصير بعضاً من طبيعته المادّية الخاصّة، ولكنّ التخزين الزمني القابل للإدراك الحسي، ومعاينة الوعي، هي الآثار التي تركها الأوّلون الذين عاشوا في مستويات زمنيّة متتالية، ضاربة في عمق التراب بالتوازي مع ضربها في عمق الأزمنة القابلة للمعاينة الظنّية وغير الظنّية, ولا يوجد في أعماق ترابنا الوطني ما هو أثمن من الآثار المادّية المندثرة عبر عهود متفاوتة، والمثير أّنّ الكشوف الأثريّة تستطيع منح الحياة المندثرة حياةً أخرى ماثلة في جعلها تسري في معارفنا المعاصرة، وجعلها مادّة للتأمّل والاستقطاب الذي يتيح لها ممارسة وظائف شتى، ذكر منها الشاعر أبوالعلاء وهو يوبّخ رجلاً يحطّم آثاراً في محافظة إدلب: «فقلت له: شُلّت يمينك خلّها/ لمعتبرٍ أو زائر أو مُسائلِ».