وعي النار .. في معرض «حريق وحرقة» لـ بديع جحجاح
المتابع لمعرض «حريق وحرقة» للفنان بديع جحجاح يستذكر معرضه الأقدم حيث كانت الأشجار ملونة بطاقة تعبيرية مميزة، وألوان زاهية، وكيف تحوَّلت هذه الأشجار إلى وقود للنار، تلتهمها من كل الجهات، محوِّلةً إياها إلى رماد، أو مجرد ذكرى أو طيف. هذا ما اشتغل عليه جحجاح مُفعِّلاً ذاكرته الانفعالية في تصوير الحرائق التي أتت على غابات سورية، مرةً يُوسِّع بؤرة المشهد إلى غابة كاملة أمامها رتل من البشر الذين يحترقون هم أيضاً بعجزهم أمام هول هذه المأساة، التي أكلت الأخضر واليابس، بحيث تتوحد أرواح الشجر والبشر في مواجهة اللهيب المتطاير، وتبدو توازن اللوحة بين الأسود في أعلى اللوحة، والترابي في أسفلها، وبينهما النار التي تواصل ابتلاع اللون الأخضر، وفي مرة أخرى يُشبِع جحجاح ألوانه الزيتية بإحساس الرَّماد الأسود، ضمن تعبيرية مغرقة ببساطتها، إذ بين طيات الرماد ثمة نيران مشتعلة، لكن في المقابل ثمة براعم خضراء ستعود للإزهار من جديد، فعلى الرغم من صيغة الألم والسَّواد الطاغي على بعض اللوحات مع تمشيحات من الأزرق، إلا أن هناك انبثاقاً وجودياً من نوع خاص، صحيح أنه صغير بمساحته إلا أنه لَعِبَ تشكيلياً دوراً مهماً في موازنة العمل، وإضفاء نوع من السكينة على تكويناته.
انعكاس الحرائق على معرض الفنان بديع لم يقتصر على الأشجار، ففي إحدى اللوحات، ثمة لوحة لدرويش من الدروايش التي اعتاد جحجاح على رسمها، لكنه هذه المرة يحترق وكأنه يدور حول نفسه ويتشظّى بحرائقه المديدة، مُفسحاً المجال للتماهي بين حالة الغابات وحالته الوجدانية، بحيث تتحول «النورانية» إلى «نار» تأكل معها كل شيء، بمعنى أن هناك انزياحاً في الرؤية التشكيلية لدراويشه، فهذه المرة نراهم يندغمون في الهمِّ العام، ويصبحون كمَنْ مسَّهَم الحريق، وأشعل فيهم صوفيةً من نوع خاص، صحيح أن حركات يديه وإغماضة عينيه هي ذاتها، لكنْ ثمة اختلاف في تعابير الوجه وفي ألوان الملابس، إذ لم تعد بيضاء ناصعة، بل متشحة بما يشبه الرماد الذي يُغطي النار الداخلية تحت الثوب، فالدرويش هنا يحترق بوجوديته الخاصة، مثله مثل الشجرة في اللوحة المجاورة التي يقترب الفنان من حريق جذورها وأغصانها، بحيث تطغى النيران على المشهد، وتُصبح هي بمثابة ظلال للنار لا أكثر.
نوع من الرمزية يُقحمه الفنان في أعمال أخرى، يتجلى من الغربان السوداء التي تحمل أغصاناً مشتعلة في مناقيرها، راغبةً في إشعال المزيد من الحرائق، وهنا تتجرَّد الألوان من ماهيتها، لتصبح أكثر غموضاً بين البرتقالي والأسود، بخطوطهما المتوازية، وكأن ضربات الريشة تحاول أن تصنع أسراً حول تلك الغربان مانعةً إياها من إتمام مهمتها.
التجريد يأخذ مداه في لوحات أخرى، حيث تسيل الألوان الترابية من الأعلى راسمةً ملامح قاتمة لما تبقى من اللون الأبيض في أسفل اللوحة، حيث تُصبح الرؤية غير واضحة المعالم، فلا نميز بين من يحترق؛ هل هي الأشجار أم البشر، وكأن كل شيء استحال إلى محض غبار.
على النقيض من ذلك يتجلى بهاء التلوين في لوحة كبيرة تحتل حائطاً كاملاً في صالة «ألف نون»، حيث يتسلل النور من بين أوراق الأشجار، الخضراء منها أو تلك التي نالت منها النار، وكأنها إشارة إلى النار هي نورٌ أيضاً، فتتجلى قدرة الشمس على الإحياء، وكما الشموع الحمراء المنتشرة تحت اللوحات بنورها وشذاها، كذلك الألوان وفهم الموضوعة التشكيلية، فإنها قادرة على فك ألغاز النار، ووعي مكنوناتها، على اختلاف أشكالها، وانعكاساتها، من النار المحرقة إلى النور الكامن في قلب كل احتراق.