في الأفق تباشير تموضع مصري جديد
لم يكن التموضع الذي اختطته القاهرة منذ تموز 2013 مستقراً، أو يوحي بقابليته للاستمرار، فحالة الاحتياج متعددة الأوجه لنظام كان يسعى إلى تثبيت دعائمه هي التي قادت إلى تلك الحالة القلقة التي تتحين الفرصة لتموضع جديد يتناسب والدور المصري المحكوم بعاملي التاريخ والجغرافيا بدرجة تصل إلى كونهما محددين دائمين لرسم السياسات تحت طائلة تلاشي الدور إذا ما أضحت هذه الأخيرة خارج سياقاتهما، وفي خطوة مبكرة سجلها الموقف المصري من إعلان المملكة السعودية لحربها على اليمن آذار من العام 2015، ظهرت أولى بوادر التململ المصري الذي قررت القاهرة من خلاله ترك مسافة بينها وبين الرياض، وعلى الرغم من كل ما أذيع وقتها من مبررات، فالثابت هو أن عدم مشاركة مصر العسكرية في تلك الحرب كانت تعبيراً عن شعور مصري بعدم إمكان أن تكون القاهرة، بكل ثقلها التاريخي والحضاري، إحدى الملحقات المتممة للسياسات السعودية.
على غير ما كان متوقعاً، أقله في الحسابات السعودية، لم تسارع القاهرة أسوة بما فعله باقي حلفاء السعودية الخليجيين، إلى إدانة مضامين تقرير الاستخبارات الأمريكي الذي أميط اللثام عنه أواخر شهر شباط الماضي، والذي احتوى إشارة واضحة إلى مسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المباشرة عن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول تشرين الأول من العام 2018، والراجح هو أن المفاجأة السعودية من الموقف المصري التي عكستها ردود فعل إعلامية وسياسية حادة كانت قد صدرت عن الرياض، والتي وصلت حدود “تذكير” الرئيس المصري بأن الرياض كانت الداعم الأول لوصوله “غير الشرعي” للحكم صيف العام 2013، هذه المفاجأة كانت نتيجة لقراءة سعودية تقول إن التفاهمات الشفوية القائمة ما بين الرياض وحلفائها الخليجيين، ومصر، سوف تصمد في ظل هذه الظروف شديدة التعقيد، والراجح هو أن تلك التفاهمات، التي تقول بوجوب تشكيل جبهة موحدة بهدف التعامل المنضبط والمنظم مع الإدارة الأمريكية الجديدة للتخفيف من نزعتها الحادة التي تبديها تجاه دول عدة، كانت قد حدثت مع انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية صيف العام الماضي تحسباً لوصول محتمل لجو بايدن إلى سدة السلطة في واشنطن، مع كل ما يحمله ذلك الوصول من متغيرات تجاه دول عدة كانت كل تصريحاته تشي بها.
إلا أن القاهرة خالفت التوقعات، وقررت المضي في تخندق جديد لخطوط سياساتها العريضة، والفعل، في عمقه، يستند إلى تراكمات عديدة كانت قد أترعت كأس الخلافات الممتلئة أصلاً بالعديد من النقاط، والتي استدعت انسكاب الشراب منه بفعل النقطة الأخيرة، فالخلاف المصري- السعودي حول الحرب على اليمن لم يعد سراً، حتى أن القاهرة لم تمض في سياق تلك الحرب نحو اتخاذ أي إجراءات تجاه “أنصار الله” من شأنها أن ترضي الرياض، ثم إن غرف صناعة القرار السياسي المصرية لم تخف انزعاجها من المصالحة الخليجية التي شهدتها قمة العلا مطلع هذا العام، والتي استثنيت منها مصر، على الرغم من أن السعودية كانت قد عملت على جعل مصر رأس حربة في خلافها مع قطر صيف العام 2017، ثم إن ولي العهد السعودي كان قد عمد في غضون السنتين الماضيتين إلى إلزام الشركات بنقل مقراتها الإقليمية إلى الأراضي السعودية، وهذا كان يمثل إضراراً مباشراً بالمصالح المصرية وكذلك نظيرتها الإماراتية.
توحي ردود الفعل السعودية الحادة على الموقف المصري آنف الذكر بأن الرياض تنظر إلى هذا الأخير على أنه مؤشر يتجاوز الحدود المصرية المتوقعة تجاه تحد هو الأخطر مما تعرض، ويتعرض، له العرش السعودي، بل يهدد استقرار النظام السياسي في المملكة إذا ما تتالت المواقف الأمريكية وفق الرتم الذي وضعه تقرير الاستخبارات الأمريكي سابق الذكر، ليصل إلى محاولة تموضع مصرية جديدة، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، فالقاهرة الآن ترى أن النظام السعودي هو في أضعف حالاته قياساً إلى معطيات عديدة، ولعل أبرزها إعلان الولايات المتحدة عن عزمها إعادة تقييم علاقاتها مع المملكة السعودية بالتزامن مع عزم أشد خطورة يمثله نزعة أمريكية ما انفكت تسعى نحو فتح قنوات الحوار مع طهران وصولا للعودة إلى الاتفاق النووي الذي ألغاه الرئيس السابق دونالد ترامب في أيار من العام 2018، ولذا فإن القاهرة ترى أن الوقت قد حان لانطلاق عملية تبادل الأدوار، فالسعودية التي حاولت تسيد المشهد الإقليمي العربي بعيد انشغال معظم الدول العربية الوازنة باضطراباتها الداخلية التي انطلقت ربيع العام 2011، لم تعد اليوم بذاك الموقع، والوقت حان لإمكان أن تمضي القاهرة للحلول محلها في ذلك الدور بعد غياب دام لأكثر من عقد، والمؤكد هو أن عودتها ستشكل تحولاً كبيراً على مستوى المنطقة، ولسوف تنعكس تداعياته الإيجابية على امتدادها، فالزعامة السعودية لم يفض ميراثها إلا لتسويق العنف وإراقة الدماء، ومعهما محاولة اللعب باستقرار المنطقة وصولاً إلى محاولات تقسيم بلدانها خدمة لأجندة خارجية.