لن نصالح.. لن نصالح
طالعتنا الأخبار بعدوان أميركي على ما سماه وزير الدفاع الأميركي «مواقع لميليشيات متشددة مدعومة من إيران داخل سورية». وفي تفاصيل الخبر أشار الوزير إلى أن هذا الموقع كان الأصغر بين عدة مواقع عُرضت على الرئيس بايدن. لم يشرح لنا الوزير سبب اختيار الموقع الأصغر، وليس الأكبر أو الأخطر، ما يثير العديد من التساؤلات، ليس من بينها احتمال إصابة الإدارة الأميركية بنوبة من الأخلاق الحسنة، أو الإنسانية الليبرالية.
نذكر أن العدو الصهيوني سبق له العدوان على المنطقة نفسها قبل شهرين، ثم عاد لشن عدوان على محيط مدينة دمشق بعد العدوان الأميركي بأيام. تكرار الاعتداءات يدحض -في نظر الكثيرين- النظريات التي تحدثت عن ميل إدارة بايدن إلى تخفيف التوتر في المنطقة، ويشير إلى ما عرفناه دائماً من ميول عدوانية لدى العدو الأميركي والصهيوني.
لكن العودة إلى تصريح وزير الدفاع الأميركي وتحليله تشير إلى أن العدوان كان يحمل رسالة تهديد لمحور المقاومة (الأرض سورية، الميليشيات عراقية أو لبنانية، الدعم إيراني)؛ العنوان الرئيسي لهذا التهديد هو إيران، التي يعتقد الأميركيون أنهم قدموا ما يكفي من التنازلات لدفعها للجلوس إلى طاولة المفاوضات حول الملف النووي. العناوين الفرعية تشمل تثبيت الجبهات السورية، تحذير الجيش العربي السوري من القيام بأي عمليات هجومية ضد مواقع الإرهابيين شرق الفرات أو في محافظة إدلب. هذا التحذير مبني على استنتاج مفاده أن فتح معبر آمن لمرور المدنيين في منطقة سراقب يعني الاستعداد لعملية عسكرية في المنطقة، لأن الإجراء نفسه تكرر على أكثر من جبهة من جبهات المواجهة مع الإرهابيين.
الرسالة الثانية تتعلق بموقع الاعتداء على الحدود السورية- العراقية. فالعمليات المشتركة التي يقوم بها محور المقاومة في المنطقة تجعل من هذه الجبهة مصدر قلق للعدو. لذلك جاء العدوان ليقول إن هذه الحدود القائمة منذ أكثر من مئة عام موجودة لتبقى، وأن تحالفاً عابراً للحدود مهما كان شكله، أو أهدافه، يُعد تهديداً خطيراً لمصالح القوى الاستعمارية في المنطقة. لذلك لم تستهدف الطائرات الأميركية مواقع “داعش” في البادية الشرقية، رغم أن الحرب على “داعش” هي المبرر الذي تسوقه لتواجدها غير الشرعي على الأراضي السورية، فالمعركة اليوم لا تحتمل الخداع، ولا بد من كشف الأهداف الحقيقية للتواجد الاستعماري على أرض سورية.
«وحدة الجبهات» هي كلمة السر التي ترتعد لها فرائص العدو، فالحديث هنا ليس عن خسارة معركة في سورية أو العراق، أو ضربة في اليمن. وحدة الجبهات تعني صعود محور مقاوم يقف في وجه الأطماع والمخططات الرأسمالية الاستعمارية. لم تتخيل الرأسمالية العالمية، حتى في أسوأ كوابيسها، أن حربها على سورية ستعيد روسيا إلى الملعب الدولي كلاعب رئيس في معظم القضايا الدولية.. وأن الحرب على اليمن ستمرغ في التراب سمعة أسلحتها التي أنفقت دول الخليج تريليونات الدولارات على شرائها.. وأن تقنياتها العدوانية المتقدمة وأجهزة تجسسها ستقف عاجزة في حروب ضد جيوش من العالم الثالث، يدعمها متطوعون مؤمنون بقضايا أمتهم.. وأن انشغالها بتلك الحروب سيفتح الأبواب أمام الاقتصاد الصيني ليحث خطاه في السباق الاقتصادي ويحقق إنجازات غير مسبوقة.
لقد عرف الاستعمار بشكليه القديم (فرنسا) والحديث (الولايات المتحدة) الهزيمة في فيتنام، لكنه اعتقد أن ذلك الكابوس قد انتهى، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان الداعم الأول لحركات التحرر الوطني، وما تمكنت من تحقيقه من خلال حروب الجيل الخامس، التي كرست استخدام التقنية العسكرية المتقدمة في الحروب بالوكالة.
رغم التحليلات والدراسات التي تعج بها المكتبات ومراكز البحوث، إلا أن الحقيقة الدامغة والأكيدة تتمثل في أن صمود الجيش العربي السوري وقيادته العسكرية والسياسية كان المفتاح لتغيير شكل العالم. وتدرك القوى الاستعمارية الإمبريالية أن تكرار التجربة السورية يعني أن خطر توحيد الجبهات قد أصبح داهماً.
تتضح هذه الخطورة في الرفض الإيراني للاقتراح الأميركي لعقد لقاء غير رسمي لمجموعة 5+1، واشتراطها الرفع الكامل للعقوبات، والتمسك السوري بالثوابت الوطنية الذي يمنع عقد أي لقاء دولي يهدف إلى انتزاع تنازلات سورية على مستوى صياغة الدستور، أو بنية الحكم أو الأوضاع الميدانية.
في سياق معركة الإرادة نفسها حرض الغرب الاستعماري، بواسطة فرنسا والولايات المتحدة، عملاءهما في لبنان على ممارسة المزيد من الضغط على حزب الله من خلال ما عرف بمسيرة بكركي، التي طالبت بالتدخل الأجنبي وصوّبت سهامها نحو المقاومة وسلاحها؛ لكن المسيرة منيت بالفشل الميداني فلم تجمع أكثر من 15 ألف شخص، ما أظهر تراجع دعم قوى 14 آذار في الشارع اللبناني وعلى الصعيد السياسي، إذ سرعان ما عاد البطريرك بشارة الراعي إلى فتح القنوات الخلفية للحوار مع حزب الله، بعد ما لاقته المسيرة من ردود فعل باردة في المعسكر الغربي.
ما زال استهداف محور المقاومة مستمراً على جميع الجبهات، وما زال رد فعل الشارع العربي دون الطموح بكثير. لا شك في أن الأوضاع الاقتصادية والصحية ساهمت إلى حد كبير في انشغال الشارع العربي بهمومه اليومية، لكن رحى المعركة الكبرى ما زالت تدور على الأرض، ولا يوقف العدو ظرف صحي أو إنساني. لذلك فإن النخب الثورية والمثقفة مطالبة بمغادرة الشأن المحلي واليومي بعض الشيء، وممارسة ضغوط حقيقية على حكوماتها لفتح الحدود واستعادة العلاقات السياسية والاقتصادية مع سورية والعراق ولبنان، وإيقاف المجزرة التي يرتكبها النظام السعودي في اليمن.
فجر الأمة يلوح في الأفق، وعلينا جميعاً التكاتف ليكون النصر ناجزاً، فنخرج من المعركة أحرار الإرادة مكتملي السيادة.
كاتب من الأردن