خسارات ثقافية مضاعفة.. هل يمكن إنقاذ ما بقي من الحرف التقليدية السوريّة؟

“خسارات لمّا تنتهِ” عبارةٌ هي الأنسب للحديث عن أصحاب الحرف التراثية، بدأتْ بفقدانهم أماكن عملهم، من ورشات ومعامل، بمن فيها أحياناً، وبما فيها غالباً، ثم انسحبت على خياراتهم اللاحقة في البحث عن حلول وبدائل لمواصلة العمل، لكن الصعوبات توالت وتفاقمت حتى صارت الخسائر بالجملة، غلاءٌ كبير في أسعار المواد الأولية، في حال أمكن الحصول عليها، قلّة في اليد العاملة الخبيرة، صعوبة في التسويق، والنتيجة بطبيعة الحال ليست إلا خسارةً مضاعفة، تتجاوز الحرفيين كأشخاص ومبدعين، لتطول التراث الثقافي السوري غير المادي، في مُكونه الأجمل والأكثر شهرة للبلد وأبنائها، والكلام هنا عن “البروكار الدمشقي، الأغباني، اللباس الفلكلوي، النحاسيات، السيف الدمشقي، العجمي، الموزاييك” وغيرها، فهل يمكن تجاوز الأضرار التي سببتها الحرب على سورية وإنقاذ ما بقي من الحرف؟، هذا كان سؤالنا إلى شيخ كار العجمي عرفات أوطه باشي والحرفي المختص بالموازييك هشام الحلبي، والباحث في التراث محمد فياض الفياض.
في سبيل الاستمرار
يؤكد عرفات أوطة باشي، وهو رئيس شعبة المهن التراثية في اتحاد غرف السياحة السورية ورئيس لجنة سوق المهن اليدوية في التكية السليمانية أن تخريباً ممنهجاً طال الحرف التراثية في السنوات الأخيرة، تمثّل في وقت ما، بتسهيلات وإغراءات قُدِّمت لاستقطاب الحرفيين إلى دول مجاورة، لكن ليس أمراً خافياً بالمقابل أن البعض اضطر للهجرة بسبب الظروف الصعبة التي نعرفها جميعاً.
يضيف شيخ كار العجمي لـ”تشرين”: بعض الحرفيين اليوم يعملون في بيوتهم، ويحاولون التحايل على فقدان وغلاء المواد الأولية، أيضاً تعلّمنا خلال الحرب التركيز على القطع المطلوبة في المعارض الداخلية، ولجأ عددٌ كبيرٌ منا إلى القروض الممنوحة من قبل وزارة الصناعة، ومع ظهور وباء كورونا، ازدادت الصعوبات، فلم يعد بالإمكان المشاركة في المعارض الخارجية أو تسويق المنتجات والمشغولات، بالطبع الأمور أصعب بالنسبة للحرفي غير المنتسب لأحد التنظيمات الحرفية، لكن الحاجة مُلحّة لإنقاذ الحرفيين جميعهم، والأصح من بقي منهم، لا من يُتاجر بالحرف، الفرق بينهما كبير !.
وعلى ما يبدو، فالمعاناة غير محصورة بما سبق، لأن الحرفيين مهما كابدوا، يحتاجون في النهاية أمكنةً وأسواقاً تراثية تحتويهم وتسهّل التواصل معهم. يقترح أوطة باشي الاستفادة من قلعة دمشق وخان أسعد باشا العظم، فمن غير المنطقي على حدّ تعبيره حصر الحرف التقليدية في مدينة كـ دمشق بالتكية السليمانية وحدها، في وقت يتمنى فيه الحرفيون أن يتوفر لكل حرفة 3 من العاملين أصحاب الخبرة، فقط لا غير، بعد أن كانت الأعداد بالمئات!.
الخوف من تراجع أعداد الحرفيين، يظهر جليّاً في الحديث عن حرفة الموزاييك، حسبما يوضح الحرفي هشام الحلبي، يُقارن الرجل بين ما كانت عليه الأمور قبل الحرب على سورية وما آلت إليه، غلاء المواد يجعل من فكرة تأسيس ورشة لأي حرفة يدوية أمراً مستحيلاً.
يقول الحلبي: الإشكالية الأبرز ارتفاع أسعار المواد الأولية، حرفة الموزاييك تعتمد على خشب الجوز، وسعر المتر وصل اليوم إلى (5) ملايين ليرة، الرقم انعكس على سعر المبيع وأجرة الصانع، ولا ننسى واقع الكهرباء السيئ، عملنا يعتمد عليها، وحتى في حال استطاع الحرفي شراء “مولدة” فمن غير السهل تأمين المازوت اللازم لتشغيلها، إذا استمر الوضع على حاله فالحرفة ستختفي قريباً لأن العاملين بها على قلتهم، لا يرون فائدة في استمرار محاولة العمل بتكلفة عالية ومربح ضئيل جداً أو معدوم.
حلول إسعافية عاجلة
يعود الباحث محمد فياض الفياض إلى سؤالنا في المقدمة “هل يمكن تجاوز الأضرار التي سببتها الحرب على سورية وإنقاذ ما بقي من الحرف؟”، ويجيب: حجم الخسائر في قطاع الحرف لا سيما في محافظتي حلب وريف دمشق والمحافظات الشرقية، كبير جداً، ويُفترض أن تكون هناك حلول لإعادة إنعاشه في وقت تمرّ فيه سورية بأحلك الظروف، لكنها بالمقابل تمتلك خامات مهمة وإبداعات حرفية متميزة يتحكم بها اليوم بعض السماسرة بغية تحقيق الأرباح الطائلة عبر تصديرها إلى دول أوروبية وخليجية لتباع بالقطع الأجنبي بينما الحرفي لا يأخذ نصيبه العادل من هذه المنتجات الثقافية!.

ويرى الفياض أنه يجب الإسراع في إعادة دراسة واقع الحرف التقليدية بالتشاور مع الاتحاد العام للحرفيين ووزارة الصناعة والجهات الحكومية الأخرى التي تعتبر نفسها جهة وصائية على الحِرف التقليدية لا سيما وزارة السياحة ووزارات الثقافة والاقتصاد والتجارة كما يستوجب القيام باستراتيجيات إسعافية وعاجلة ، قوامها: تشكيل لجان حكومية تقوم بإحصاء حجم الخسائر في القطاع الحرفي خلال السنوات العشر الماضية وإمكانية التعويض على المنشآت الحرفية من خلال تقديم القروض الطويلة المعفاة من الفوائد، تأمين المواد الأولية المتعلقة بقطاع الحرف التقليدية من خلال مؤسسات القطاع بأسعار مقبولة مع تشجيع إقامة الشراكات مع الأشقاء والأصدقاء لفتح آفاق جديدة وتصريف الإنتاج الحرفي كما يمكن برأي الباحث إطلاق نافذة لتصريف المنتجات الحرفية التقليدية الإبداعية في السفارات السورية المختلفة يعود ريعها لمصلحة الخزينة العامة، إضافة إلى الإسراع في لحظ القوى التراثية المتعلقة بالحرف التقليدية على المخططات التنظيمية لمجالس المدن والبلديات وفق سياسة الإعمار الجديدة في المحافظات كلها، والعمل على توظيف الموقع الأثري “خان أسعد باشا العظم” ليكون بمثابة هيئة عامة لدعم قطاع الحرف التقليدية، شريطة أن يكون المكان مناسباً لإطلاق “المعهد العالي لتطوير آفاق الحرف التقليدية العميقة” من خلال تشغيل الأماكن التي تزيد على 40 غرفة في التدريب والتأهيل من خلال استقطاب الحرفيين المبدعين إلى هذا الفضاء.
نشير إلى أن عدد الحرفيين المنتسبين “حسب الفياض” إلى الاتحاد العام للحرفيين حوالي 135670 حرفياً وفق إحصاءات العام 2019 واليوم يبلغ عدد الحرفيين ما يقارب 140000 حرفي موزعين على المحافظات السورية كلها، يعملون بموجب المرسوم التشريعي رقم 250 للعام 1969 وتعديلاته، الاتحاد يعمل تحت إشراف وزارة الصناعة، وهناك مديرية تسمى “مديرية التعاون الإنتاجي وتنظيم الحرفيين” تعد آلية الربط بين الاتحاد العام للحرفيين ووزارة الصناعة.

تصوير: طارق الحسنية

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار