هل تراجع الشعر عن الصدارة.. وأين أقطاب القصيدة الموزونة؟
مصطفى النعسان :
من المآزق التي يعانيها الشعر في العصر الحالي، ذلك المأزق الذي أزاحه عن مركز الصدارة، حيث إنه منذ عصر ما قبل الإسلام، وربما حتى بداية الثورة العلمية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان الشعر طوال هذه الفترة هو النتاج الأدبي الأبرز الذي يحتل مركز الصدارة في اهتمامات الناس الأدبية والثقافية.
فمن المعروف أن الشعر قديماً كان يسمى «ديوان العرب» وربما بقيت هذه التسمية صحيحة إلى مراحل متقدمة من عصرنا الحالي، فما الذي أزاحه عن مركز الصدارة – رغم الإسعافات التي جاءته من ازدهار ثورة الإنترنت- هل أزمة النوعية، أم أزمة المنافسة التي أمسى الشعر متضرراً منها؟
والحق أن الاهتمام بالشعر تراجع نتيجة الحالتين معاً، حيث إن الكثير من الشعراء المرموقين أهملهم الإعلام أو تناولهم على خجل واستحياء، بينما أبرز الإعلام شعراء ما كان يمكن أن يكون لهم كل هذه الهالة لولا النجومية التي كان الإعلام المساهم الأول في صنعها، وهذا الكلام يصح على معظم الشعراء في العالم العربي، الأمر الذي ساهم في تقديم نتاجات شعرية متراجعة ساهمت بدورها إلى حد ليس بيسير في تراجع وتقهقر اهتمام الناس بالشعر والانشغال به.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الثورة العلمية و المعلوماتية – على وجه التحديد- كان لها دور إيجابي وسلبي على صعيد الشعر، فبينما ساهمت وسائل الإعلام مع المراكز الثقافية في ازدهار حركة الشعر الى حدٍّ ما، وطرحتها للتداول لكنها طرحت في الوقت ذاته أنواعاً أدبية وعلوماً أخرى فرضتها طبيعة الحياة وجعلتها تحتل مركز الصدارة عوضاً عن الشعر.
فمثلاً امرؤ القيس والمتنبي سيظل اسماهما متلألئين في عالم الشعر وربما حتى قيام الساعة، ولكن أسماء شعرية من العصر الحديث بالتأكيد سيطويها النسيان إلا ما ندر من الشعراء كأحمد شوقي ونزار قباني مثلاً نتيجة تزاحم الأسماء في الساحة الشعرية ونموها وطغيان أسماء شعرية على أسماء أهم منها كإحدى المواربات الإعلامية، والسبب الآخر – ويبدو وجيهاً- يتمثل بانشغال الإعلام بوجوه شعرية عصرية أكثر من وجوه مضت ولو كانت أبرز منها وأجدر وأكفأ.
وهذا في الواقع أحد وجوه مأزق الشعر، أما الوجه الآخر فيتمثل في أن الثورة المعلوماتية – كما أسلفنا – ساهمت مساهمة أساسية في إزاحة الاهتمام بالشعر لتحتل علوم غيره مركز الصدارة بالنسبة لاهتمامات الناس.. فمثلاً ترى صحفاً عدد صفحاتها عشرون صفحة لا ترى فيها سوى صفحة واحدة للأدب عامة والشعر أحد فروعه وربما يمضي شهر أو شهران أو أكثر لا تنشر خلالها سوى بضعة أبيات من قصيدة لشاعر أسعفه الحظ، وما يُقال عن الصحف، يُقال عن المحطات الإعلامية، ذلك أنه من بين كم هائل من المحطات ربما لا نجد أكثر من محطة واحدة تنشغل بأمور الشعر والأدب.
حتى المراكز الثقافية أمست في عصرنا الحالي مشغولة – كما وسائل الإعلام – بالمحاضرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما إلى ذلك، وهذا أحد إفرازات تنوع الحياة وتعقيداتها الناتجة عن الثورة العلمية والمنتجة لها في الوقت ذاته. وعلى أي حال ورغم المأزق الذي يعانيه الشعر قياساً الى ما سبق فإنه سيظل متألقاً في نفوس الناس، وسيظل أيضاً من ضمن اهتمامات أغلبهم، كما سيظل شاغل الناس كالمتنبي وأدونيس وأبو نواس، ولكنه لا يملأ الدنيا كما كان في عصره