المحكمة الجنائية الدولية.. هزيمة في ثوب نصر

في احتفالية سياسية وإعلامية، استقبل «عرب الاعتدال والسلام» قرار المحكمة الجنائية الدولية بمد ولاية المدعية العامة لدى هذه المحكمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وبنت المحكمة قرارها على أن فلسطين تعد دولة وبالتالي تستفيد من اختصاصات «نظام روما» الأساسي الذي أُنشأت بموجبه هذه المحكمة.
ما دفع البعض إلى اعتبار قرار المحكمة تاريخياً، أن السلطة الفلسطينية تحاول منذ سنوات تقديم ملفات «الخروقات» الإسرائيلية لحقوق الإنسان إلى هذه المحكمة، لكن لويس مورينو أوكامبو، المدعي العام السابق، كان يرفض قبول هذه الشكاوى بدعوى أن فلسطين ليست دولة عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة. إذا أضفنا إلى ما سبق رد الفعل الغاضب لرئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو- الذي وصف القرار بأنه سياسي ومعادٍ للسامية، وتبعه مباشرة وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنتوني بلينكن الذي اتهم المحكمة بالتحيز وأعلن دعم بلاده لـ”إسرائيل”.. كل هذه الحقائق تجعل القرار بعين البعض انتصاراً تاريخياً لفلسطين وقضيتها.
يمنح نص القرار المدعية العامة لدى المحكمة الجنائية الدولية سلطة التحقيق بارتكاب مخالفات بحق القانون الدولي، بما فيها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.. «يمكن أن يكون “جيش الدفاع الإسرائيلي” أو بعض التنظيمات الفلسطينية قد ارتكبها» فالشيطان، إذاً، ما زال كعادته يكمن في التفاصيل، بل لعلنا نستطيع القول إن أكثر من شيطان واحد يكمن في تفاصيل هذا القرار.
الشيطان الأول يكمن في أن القرار يُقصّر صلاحية المدعية العامة على المناطق المحتلة عام 1967 باعتبارها فلسطين، وأن ما أصاب الفلسطينيين قبل ذلك؛ ومنذ عام 1948 من طرد وتهجير 750 ألف إنسان، وإزالة أكثر من 450 قرية وبلدة من الوجود، والاستيلاء على أكثر من 50% من بيوت العرب الفلسطينيين، والمجازر التي يمتد خط الدم فيها من رأس الناقورة حتى رفح، كلها تقع في خانة «عفا الله عمّا مضى».
أما الشيطان الثاني، والأكبر، فيكمن في أن قرار المحكمة يساوي بين الممارسات العنصرية لجيش الاحتلال، والمقاومة الوطنية للشعب الفلسطيني، التي تعد مقاومة مشروعة بموجب ميثاق الأمم المتحدة. لقد نزع القرار هذه المشروعية القانونية عن نضال الشعب الفلسطيني في سبيل تحرير أرضه بعدم الإشارة إلى أن الجيش الإسرائيلي يُعتبر قوات احتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
ورغم الغضب الإسرائيلي الرسمي، إلا أن أي متابع لتاريخ الصراع سيدرك أن هذه الجزئية من القرار يمكن أن تؤدي إلى اعتبار بعض أشكال المقاومة الفلسطينية أعمالاً إرهابية، وبالتالي فهي تعد إنجازاً لكيان الاحتلال الصهيوني.
الشيطان الثالث؛ يكمن في الإجراءات التنفيذية التي ستتبع هذا القرار. ناهيك عن القناعة الراسخة من أن الكيان الصهيوني لن يسمح للجان التحقيق الدولية دخول مناطق يشملها القرار كالقدس وغور الأردن، فإن وصول اللجان إلى هذه المناطق ينطوي على أخطار عدة. فلو خرجت هذه اللجان بنتائج مفادها أن هناك جرائم مخالفة للقانون الدولي وقعت من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، فإن ذلك يعني وسم الكثير من التنظيمات المقاومة الفلسطينية بالإرهاب؛ في حين لا يمكن أن يُشار إلى جيش الاحتلال بالوسم نفسه، وستقتصر الاتهامات على ضباط ومسؤولين بعينهم.
ومما لا شك فيه أن كيان الاحتلال مدعوماً بحلفائه الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، سيقومون بحماية الضباط والجنود الإسرائيليين، في حين تعجز السلطة الفلسطينية عن حماية المناضلين الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها.
عبر تاريخ القضية الفلسطينية أشبعنا أنفسنا انتصارات وهمية، و«فاز العدو بالإبل». أسقطنا البندقية لصالح التسول السياسي المسمى عملية سلام.. فماذا جنينا؟
قَبِل معظم العرب قرار التقسيم 81 لعام 1947.. وقبلوا بعد ذلك التنازل عن أراضٍ لم تحتلها عصابات الصهاينة في محادثات وقف إطلاق النار في رودس عام 1949.. قبلوا القرار 242 وبعده القرار 338.. أعلنوا الانتصار عندما اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الحركة الصهيونية عنصرية، لكنها عادت عن قرارها.. وعادوا ليلعنوا الانتصار عندما أعلنت معظم دول العالم قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني إبان حرب 1973.. لكن تلك العلاقات عادت أقوى وبوتيرة أسرع.. وأعلنوا الانتصار عام 2004 عندما قررت محكمة العدل الدولية أن بناء جدار الفصل العنصري يتناقض مع القانون الدولي، لكن “إسرائيل” استكملت بناء الجدار، وأثبتت أن هذا القرار لا يستحق ثمن الحبر الذي كُتب به.
الغريب أن معظم العرب يتفقون على هذه الانتصارات الوهمية، لكنهم يختلفون على الانتصارات الحقيقية كتلك التي حققتها المقاومة الوطنية اللبنانية عامي 2000 و2006، والانتصارات التي يحققها أبطال الجيش العربي السوري، يومياً على مرتزقة الاستعمار وداعميهم في كل بقعة من بقاع سورية.

لقد خاطبت سورية المحافل الدولية واستقبلت لجانهم، لكن يدها كانت على الزناد، وجنودها في الميدان يخوضون المعارك، فقبلت ما يتماشى مع سيادتها، ورفضت ما يخل بهذه السيادة، فهل يمتلك الفلسطينيون هذا الامتياز؟
لن يسمع العالم صوتنا إلا إذا كنا في موقع القوة، وكانت قدرتنا على الرفض تساوي قدرتنا على القبول، أما تلك الانتصارات التي تأتي على شكل جوائز ترضية بعد إراقة ماء الوجه السياسي والوطني، فهي هزائم مهما حاول البعض تصويرها على أنها انتصارات.
كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار