آفة المغالطة في التحليل السياسي والخطاب الإعلامي
في الخطاب الإعلامي الموصول بشبكات المصالح بالمعنى التجاري والسياسي، لا نتحدّث عن حالة عجز العقل أمام الاعتقاد، بل نحن أمام نظرية ألعاب تستعمل الاعتقاد نفسه كعنصر في التوجيه السياسي والإعلامي لغايات لا تمتّ بصلة لغير المصلحة السياسية والتجارية.
وعليه، ستدفعنا ظواهر الخطاب الإعلامي وأساليب المغالطة المعتمدة، إلى واحدة من أكبر المغالطات التي يستند إليها الخطاب الإعلامي الموجّه.
نتحدّث هنا عن مغالطة بروكرُست (procrusteanism) وكيف أنّها تعدّ الوسيلة التي يعتمدها التضليل الإعلامي في عملية السيطرة على الأذهان وتوجيه الوعي، على اعتبار أنّ البصيرة والوعي يتوقّفان على إدراك طبيعة هذه المغالطة، التي تمارس في كلّ مكان مهما اختلفت الشعارات.
ويعود اسم المغالطة إلى الاسم الشخصي لمجرم قديم كما في الأسطورة اليونانية، كان يمتهن الحدادة، هو بروكرست، كان أيضاً قاطع طريق، ويتفنّن في تعذيب ضحاياه باستعمال سرير حديدي كان يمتلكه وكان مهووساً به.
من هنا جاءت عبارة مغالطة سرير بروكرست (procrustean bed) – حيث تنقلنا الحكاية إلى استنتاج مقولة أنّ هذا السرير يناسب كلّ الأحجام، ولكن السبب هو أنه حين يربط ضحاياه على السرير الحديدي، يحاول أن يجعل أحجامهم مناسبة لطول السرير، فإذا صادف أن كان أحد ضحاياه قصيراً، قطع رجل الضحية ووضعها على حافة السرير، وإذا صادف أن كان أحد ضحاياه أطول، قطع ما زاد على حدّ السرير.
يتجلّى استعمال مغالطة بروكرست في عملية ليّ أعناق النّصوص بحثاً عن المطابقة مع الخطّ التحريري، ويمكن أن تدخل في هذا الأماني والأشياء التي تشكل ميلاً مسبقاً قبل البرهنة وقبل التحقيق. تكمن مغالطة بروكرست في محاولة انتقاء معطيات بعد إخضاعها لتأويل فاسد وخلع آراء مسبقة عليها لخدمة خطّ تحرير معيّن. وهذه العملية شأنها شأن القياس المغالط تكمن في استعدادات الإنسان، ولاسيما أنّ من يخلع المعنى على المعطيات الحسيّة هو الذّهن، من هنا نحا الكثير من الفلاسفة المثاليين لإنكار حقيقة المطابقة بين عالم الواقع وعالم الأذهان؛ غير أن مغالطة بروكرست تسعى لوضع المعطيات على أساس أفكار مسبقة، وهي مغالطة توجد في شتى النشاطات التي يقوم بها الإنسان.
تتجلى مفارقة بروكرست أيضاً في التحليل السياسي مع اختلاف المهارات وقدرات المحلل، حيث يصبح كل شيء تابع للتمنيات والمواقف المسبقة، يتم القبول بكل ما يخدم الفكرة المسبقة واستبعاد كل ما لا يخدمها.
وهكذا نجد المعطيات تأتي بعد الفكرة وتعزز رأياً مسبقاً، وإذا اقتضى الحال ليّ أعناق المعطيات، فلا مانع لدى البروكرستي، طالما هناك ما يبرر الأمر، هو مناسبة المعطيات للتحليل، تماماً كمناسبة حجم الجسد المقطّع لسرير بروكرست.
قد تتكامل هذه المغالطة مع نظائرها من العائلة المغالطاتية، فهي شكل من تجاهل الموضوع، أي حين نتجاهل حقائق الواقع، لكي نخضعه لقوالب جاهزة في الأذهان؛ يقوم المحاور باستدراج محاوره إلى موضوعات أخرى غير موضوع النّقاش، ويحاول من خلال هذه العملية أن يفصل النقاش في موضوع ما على موضوع آخر، للنكتة التي نتداولها في البلد عن شخص أشبه بجحا، حضّر لامتحان الإنشاء، وافترض أن الامتحان سيكون حول الحديقة، لكنه سيُفاجأ بأنّ الامتحان يتعلق بسؤال حول الطائرة، فما كان منه إلاّ أن وضع مقدّمة يقول فيها: ذات يوم ركبنا الطائرة، فسقطت الطائرة في الحديقة، وهكذا بدأ يصف الحديقة.
ويمكن اعتبار الشخصية البروكرستية شخصية مجرمة، بحيث تعمد على تقطيع الخبر والتصرف فيه وبتر أجزائه تماماً كما يقطع المجرم جسد الضحية، بنوع من السّادية المفرطة. ويدخل الإعلام الغارق في البروكرستية في نمط الإعلام السّادي غير الآبه بالحقيقة والمتلقّي، فهو مستعدّ أن يبتر الخبر والمعطيات بتراً فاحشاً بضمير مهني ميّت وروح إجرامية عميقة.
تستعمل البروكرستية في الدعاية والحروب الإعلامية بل حتى في السياسات. قد يتخذ القرار السياسي، ثم يتم البحث عن ذريعة في حجم وقياس الهدف المتوخّى، ومثل هذا يحصل في العلاقات الدولية، تأتي المعطيات أو تفتعل أو تصنع لخدمة قرار سياسي مسبق. تستعمل المغالطة نفسها في سلوك الناس، حيث يبحث الخصم عن معطيات توافق رأيه في خصمه أو على مقياس ما يريده.
يمكن اعتبار الاستعمال الفاحش للمناهج والنماذج كسُلط لتقطيع العقل في مغالطة بروكرست، وهو ما يشكّل مظهراً آخر من مظاهر التآمر على الذهن البشري، فالبروكرستية في مجال التّعلّمات تُخضع المتلقي لعدد من القوالب الجاهزة، وتحدّ من كل ما زاد من نشاط العقل. فلكي يتمّ التقيد بنموذج معيّن، تفرض سلطة بروكرست على الفكر العلمي عدداً محدداً من القواعد.
وعلى هذا الأساس يمكننا اعتبار أزمة التعليم اليوم وأزمة البحث العلمي كامنة في النزعة البروكرستية التي هيمنت على قطاع التعليم نفسه، وهو ما جعل مخرجاته عبارة عن أشلاء ممزّقة على سرير بروكرست، فالتعليم لم يعد طريقاً للإبداع بل وسيلة لتقطيع الجسد المعرفي. فسرير بروكرست يقطع ما زاد على القوالب كما يمطط أقدام الأغبياء ليجعلهم في حجم سريره، وهكذا بات العلم إمّا صناعة مبتورة قامعة للعبقرية أو صناعة لأقزام تمّ تمطيطهم ليصبحوا في حجم القوالب المعدّة.
تناهض البروكرستية فكرة تعقيد الواقع، أي ما يقتضي التعاطي معه بمناهج أوفر وانفتاح أكبر، ذلك لأنّ البروكرستية في جوهرها نزعة تبسيطية للواقع، وهي ضدّ الإبداع، وتجاوز قوالب التفكير. تعتبر البروكرستية نزعة ديكتاتورية قاتلة للعقل والروح والإنسان والحقيقة.
تحضر البروكرستية في كل أشكال تمطيط الكلام للالتفاف على الحقيقة، فالكلام هو أيضاً وسيلة بروكرسية، نمططه أو نقطعه ليأتي على مقياس حافة السرير. وهنا لا يمكن أن تقوم بروكرستية من دون حالة تعذيب وتقطيع لجسد الواقع والحقيقة، فعملية تحريف الواقع برسم البروكرستية هي عملية عنيفة وتعسّفية وتعذيب يومي يقوم به الإعلام المضلّل سواء للعقل أو للواقع، إنّه الوسيلة الأخطر في عملية التآمر على الذّهن البشري. ومتى اصطدم البروكرستي بالواقع أو الحقيقة، فلن يسلّم لهما، بل سيعاند، وسيغير الواقع والحقيقة ولو بالعنف لفرض رأيه.
لقد تحوّلت الميديا- لوجيا بالأحرى إلى علم الوسائط البروكرستية، لأنّها معنية بتقطيع الحقيقة والواقع بشكل يومي أمام المتلقي، فعالم الميديا هو مختلف عن عالم الواقع، وحقائقها مختلفة عن حقائق الواقع، هناك سيطرة بروكرستية على الوسائط ، وبالتالي سيطرة عنيفة على العقل الجمعي والذهنية العامّة.
في وسائل الإعلام هنا استعداد فطري للتضليل، وهناك تكوينات يراد لها تخريج بروكرستيين محترفين، حيث المهنية هي نفسها – ومن هناك تحديداً – تبدأ الأزمة، مهنية تمنح مهارات بروكرستية لتقطيع الخبر والتصرف فيه ثم إيجاد المبررات الجديرة بتعليل براءة التقصير، لكن هذا التبرير بات قاعدة ملازمة للخطاب الإعلامي، وعادة ما يرمون باللاّئمة على الزّمن والتوقيت والهرولة، لا ندري ما علاقة الهرولة بتحقيق الواقع؟.. وسنجد أنّ تكوين القدرات المهنية البروكرستية هي نفسها ضحية لصناعة بروكرستية، حيث لا يمكن الحديث عن مهنيين تجاوزت أطرافهم حافة سرير بروكرست. وربما تجاوز التضليل الإعلامي بروكرست نفسه، فهذا الأخير كان يتصرّف في أطراف الجسد البيولوجي بينما الإعلامي التضليلي قد يتصرّف في وسط الجسد الخبري، يقطعه من أطرافه ومن وسطه إن اقتضى الحال.
ما يزعج البروكرستية في شتى القطاعات هو النزعة الآنرشية (الأنا) في العلم وثورة العقل على الباراديم (النماذج والمفاهيم) والرغبة في استيعاب الواقع في تعقيده، إنّ البنية البروكرستية للمعرفة والثقافة والعلم والسياسة، تعزّز الجمود والتّخلف. وسنجد هذه البروكرستية حاضرة في المسرح المُثاقفاتي، القائم على قطع الأطراف ليتناسب الجسد المعرفي الجريح مع سرير الأوهام والأماني والموضات الفكرية، والباقي يكمله فعل العدوى داخل العقل الجمعي، أقول العقل الجمعي، وأقصد به أيضاً عقل النخب المزيفة التي لا تختلف في الجوهر عن العقل الجمعي للجمهور، فالنخب هي نفسها عبارة عن «زومبيات» مُثاقفاتية مقصوفة الرّقبة، من مخرجات التقطيع البروكرستي المزمن.
كاتب من المغرب