شيُّعوا من دار السعادة.. حكاية مبدعين سوريين في أيامهم الأخيرة
ليست مصادفة أن يقترن اسم (دار السعادة للمسنين) بأسماء بعض المبدعين الذين أقاموا فيها خلال الأيام الأخيرة من حياتهم، لكن قد تكون مفاجأة للبعض تواجد هذه الأسماء فيها، هذه الدار التي تأسست سنة 1990 من قبل مجموعة من السيدات اللواتي كن يقمن بالعمل التطوعي في فترة كانت فكرة تأسيس هكذا دار غير مقبولة في المجتمع، ومؤخراً أدى الإعلان عن وفاة بعض الشخصيات الأدبية والفنية والإعلامية فيها إلى تساؤلات عديدة عن الدوافع التي أودت بهم، واضطرتهم لسكن الدار، رغم أن الأمر أصبح أكثر شيوعاً عن الفترة الماضية، إلا أن الكثيرين مايزالون ينظرون إليه بأنه غير مقبول اجتماعياً، وعندما يخص الأمر أهل الفن تكون الأضواء مسلطة أكثر، ويكون الحديث أكثر سخونة …
ملاذ للسكينة
مديرة دار السعادة السيدة ميساء شعباني قالت: هذه الدار لا يمكن اعتبارها (مأوى للعجزة)، بل هي، وبكل معنى الكلمة؛ سكن للمسنين الذين بلغوا من العمرعتياً وأرهقتهم السنون وأعباء الحياة، وكل شخص لا يستطيع خدمة نفسه لأسباب عديدة، وتُضيف شعباني: لقد تحولت هذه الدار خلال الحرب على سورية إلى ملاذ لعدد من نجوم الفن والإعلام والثقافة يمضون فيها سنواتهم الأخيرة منشدين الطمأنينة والسكينة والرعاية الطبية والإنسانية، وكان أبرز ساكنيها الفنانة هالة شوكت، والمخرج رياض ديار بكرلي، والفنان التشكيلي ممتاز البحرة، والأديبة اعتدال رافع، وفتى دمشق، والمخرج علاء الدين كوكش الذين لفظوا أنفاسهم الأخيرة في الدار..
الانزواء والوحدة
وعن نزلاء الدار من المبدعين؛ تذكر شعباني أيضاً؛ إنه ماتزال الاعلامية هيام الطباع، تُقيم في الدار، وكانت قد تبرعت بمنزلها الكائن في دمشق لصالح الجمعيات الخيرية قبل مجيئها إلى هنا، وتعّد الطباع صاحبة أقدم برنامج تلفزيوني سوري عن الأطفال حمل اسم “نادي الأطفال”، حيث بدأ عرضه مع تأسيس التلفزيون السوري سنة 1960 ثم استمر عرضه لسنوات لاحقة، وحقق شهرة كبيرة آنذاك، وقد اعتبرت الطباع أول (أم للأطفال) في التلفزيون السوري، وصاحبة أول برنامج موجه للأسرة السورية، حيث كانت تصحب الأطفال معها إلى الاستديو، واستمرت لسنوات قبل أن تؤثر العزلة والوحدة في دار السعادة…
على رصيف الانتظار
وكان المخرج الراحل علاء الدين كوكش، قد أكدّ منذ مدة، في أحد اللقاءات التلفزيونية التي أجرتها قناة الدراما معه، إن سبب اختياره السكن في (دار السعادة)؛ في البداية كمحطة انتظار للعودة إلى بيته الذي هُجّر منه نتيجة الحرب على سورية، وفي انتظاره الطويل، لم يوقف نشاطه، بل دفعه للعودة إلى خلف الكاميرا مخرجاً لمسلسل “القربان”، وكانت آخر مشاركاته التلفزيونية كممثل في مسلسل “شارع شيكاغو”، الذي يُعرض هذه الأيام، وأكدت مديرة الدار أن الراحل كان يملك بقايا مكتبة بعد أن أهدى مكتبته الأصلية إلى وزارة التربية إضافة إلى بعض قطع الأثاث التي آثر الراحل أن تكون بغرفته تمت استعادتها من قبل عائلته وإخوته، بعد وفاته..
رعاية طبية وإنسانية
يُذكر أيضاً؛ إنّ الفنانة الراحلة هالة شوكت قضت عاميها الأخيرين في الدار، وكانت في طور التعب، وتعاني من المرض، حيث اختارتها لتقديم الرعاية الطبية والإنسانية لها، إضافة لموضوع سفر أبنائها إلى الخارج الذين تناوبوا على التواجد رغم البعد، وتم تقديم الرعاية اللازمة لها من قبل الدولة وتكريمها في عدد من المناسبات، كما تم تكريمها من قبل نقابة الفنانين ممثلة بالفنان الكبير أسعد فضة، وتذكر مديرة الدار حفل عيد الميلاد الذي أقامته النقابة لها ودعوا جميع نزلاء الدار لحضوره وهو ما ترك الأثر الطيب في نفس الراحلة قبل وفاتها..
خيار النهاية
يُعتبر الفنان الراحل رياض ديار بكرلي أحد مؤسسي التلفزيون السوري، كان يعتبر إقامته في دار المسنين أمراً اختيارياً ويرفض دوماً أن يعتبرها داراً للمرضى أو للمهملين اجتماعياً، والدليل أنه قضى أيامه الأخيرة بصحبة صديق عمره كوكش، ولفتت شعباني إلى أن المنجز الإبداعي للراحل لم يتوقف عندما كان يعيش في الدار، فقد قدم قبل رحيله عدداً من الأعمال لصالح قناة نور الشام قبل أن توافيه المنية.
وحيد في الحياة
وكان من رواد الدار الفنان بهجت الأستاذ الملقب بـ”فتى دمشق” الذي أثرى المكتبة الموسيقية لإذاعة دمشق بالكثير من الموشحات المسجلة بصوته، من ألحان عمر البطش، وصالح المحبك، وسعيد فرحات، وعدنان منيني، وزهير منيني، كما غنى القصائد والأناشيد الدينية وألواناً أخرى من الغناء، وقد أمضى بهجت الأستاذ سنوات حياته الأخيرة في دار السعادة للمسنين بعد أن عاش سنوات قبلها وحيداً، فهو لم يتزوج، ولم ينجب أولاداً يعيلونه، لذا اختار قضاء آخر سنواته في الدار لتنطوي صفحة من صفحات الغناء الأصيل في سورية.
عزلة طوعية
ولعل أبرز مرتادي الدار من الفنانين التشكيليين؛ كان الفنان الراحل ممتاز البحرة الذي أراد التخلص من أعباء الحياة، وعاش عزلة طوعية لسنوات طويلة في الدار بغية التخلص من الوحدة التي يعيشها بعد سفر أبنائه، ونوّهت مدير الدار أن الراحل كان يقوم في الفترة الأولى من إقامته بالرسم، ولكن قبل وفاته بعامين؛ اعتزل الرسم بعد الإنتاج الغزير الذي قدمه للطفولة وللمنهاج التعليمي في سورية، وأشارت بأن الموجودات التي تركها الراحل ذهبت لعائلته، وتم تفريغ إرثه ورسوماته بعلمهم ودون تدخل أي جهة.
رحلة الأمل
وواحدة أخرى من الشخصيات الإبداعية والثقافية التي كان لها حضورها على المستوى الثقافي حلّت كذلك ضيفة على الدار، وهي الكاتبة الأديبة اعتدال رافع زوجة الفنان الراحل أنور البابا التي انقطعت عن الكتابة آخر أيامها حين هجمت عليها أوجاع الحياة، وآثرت أن تعيش سنواتها الأخيرة في دار السعادة للمسنين، وكان أملها أن تنهي كتابة روايتها “صديقي السرطان” لكن المرض لم يمهلها، بل اختطفها سريعاً مخلفةً إرثاً إبداعياً وثقافياً ولقيت الراحلة العناية التامة من قبل وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب.