سأتجاوز المفهوم الأكاديمي “للثقافة” والذي يشير إلى المكاسب الفكرية والاجتماعية التي جناها أي شعب من شعوب الأرض عبر تاريخ تطوره الطويل، وأضحت في المعاصرة إرثاً حقيقياً معبراً عن “هويته” التي يتميز بها عن الشعوب الأخرى.. وأيضاً سأتجاوز المفهوم الشعبي الذي يلصق صفة “الثقافة” بالنخبة التي تجاوز تحصيلها العلمي السواد الأعظم من عامة المجتمع، لأصل، من خلال هذا التجاوز، إلى المقصد الذي أشار إليه الشاعر “سعدي اليوسف” في المقالة التي وردت في كتابه/أوراق في المهب، الصادر عن دار التكوين- دمشق- 2019 م./ عندما أختتمها بسؤاله عن الشعراء، وهل أمسوا/هم أيضاً، “مثقفين”؟ /!!..
تطلعنا الإشارات الواردة في سطور المقالة التي جاءت في متن الكتاب تحت عنوان/أنت مع الناس، إذاً أنت الناس!/إلى أن “الثقافة” هي صفة ملحقة بمن يمارسون عملية الإنتاج الفكري بفروعه النقدية والتحليلية والإبداعية، ومع أن “اليوسف” هو أحد هؤلاء المبدعين ممن ينتمون بامتياز لهذه الصفة في المدونة العربية الحديثة، إلا أنه اختار طائعاً الابتعاد عنهم، لأنه “يأنس بالناس”، ويشعر بالفزع من المثقفين، ويضيف بكثير من التناقض والغرور الذي يظهره بسذاجة بغية التميز عن أقرانه من المبدعين العرب، والذين فصل الناس عنهم، وفصلهم عن الناس، مثلما فصل الثقافة عن تعريفها الأكاديمي، بأنه أثناء إقامته بالجزائر “1964-1971” لم يلتق بأحدٍ منهم على الإطلاق، وأن تلك الفترة كانت بالنسبة له، فترة غنى، وتجارب أسفرت عن ديوان “بعيداً عن السماء”.. أما في “لندن” حيث اختار العيش هناك بعيداً عن وطنه الأم، وعن دوره كشاعر مُطالب بأن يكون لسان الناس الذين يأنس لهم، على حد قوله، ويفضلهم على زملائه من المبدعين الذين يتهمهم، دون استثناء، بأنهم /الأسوأ خَلقاً وخُلقاً / بين أفراد المجتمع، فقد اختار العزلة كالناسك، فلا يزور، ولا يُزار، لكنه كتب بغزارة يعادل كمها/المتن الشعري العربي من الجاهلية حتى القرن الثالث الهجري / والسبب هو أنه لم يلتق بمثقفين، فالمثقفون، يضيف هم الوشاة على أهل القلم النظيف، هم اللاشيء/ .. وهنا لابد من سؤال “اليوسف” عن الكثير من المفكرين والمبدعين العرب في النصف الثاني من القرن المنصرم، الذين شكلوا- بتحفظ – منعطفاً كبيراً في مسيرة المدونة العربية الحديثة، ولماذا لم يلتق بهم، أم أنهم كانوا، من وجهة نظره، ملحقين، أيضاً، بالنعوت الفجة التي عممها على الجميع، لينال الرضى من الجهة التي كان يلتقي معها، جهة نستدل عليها – قبل نهاية المقالة – بأنه يحسن التعامل معها، و/السبب أني أعرف، القاعدة الذهب، القائلة بأن السياسة هي فن الكذب /.. فن الكذب والسير في ركابه من قبل أي مبدع، وتحت أي ذريعة، لا يبطل حصر الثقافة بفئة معينة بعيدة عن الناس وحسب، بل يكشف القناع عن النسخة “النجتف” لصورة “المفكر والمبدع” الذي يدعي بأنه “هو الناس” ويحيل عجزه، وأمراضه المزمنة إلى وجوه الآخرين من أقرانه، ليظهر هو على شكل فارس جريح، وبريء من الأسباب التي ساهمت في إبعاد الناس عن النظر بعين المساهم الحصري بالفعل الثقافي التنويري في ذات المدونة..