إذا أخذنا في الحسبان أن الثقافة الجمعية لأي مجتمع هي امتداد لتاريخ طويل ساهمت تقلباته الطارئة والأصيلة في تبلورها لتأخذ صفة الخصوصية التي تميز مجتمعاً ما عن نظيره في بقعة جغرافية أخرى تماثله بكينونتها البشرية وتختلف معه من حيث التفاصيل الملحة لمتابعة العيش، تلك التفاصيل، بتشعباتها المادية والروحية، أرست في الماضي، وترسي في الحاضر المكونات الأساسية لاختلاف الثقافات بين شعوب الأرض, هذا الاختلاف، وخاصة في عصر الاتصالات السريعة، يسير في اتجاهين متناقضين في النتيجة، فإذا ما تم الأخذ – من قبل الآخر – على أنه حق يجب الإعلاء، والاستفادة من قيمه المثلى، وتقديم الدعم لأفراده بالشكل الصحيح للتخلص من رواسبه السلبية، فسوف يسير بأمان لامتلاك أجندة ثقافية تنحو بنودها لإقامة سلام بين جميع الشعوب, سلام تحكمه قوانين دولية واضحة وبعيدة عن الانحياز ، وتحميه من الانتكاسات العارضة أو المخطط لها مسبقاً، عدالة في استثمار وتوزيع ثروات الأرض، والاستفادة منها لصالح التقدم العلمي الذي لا بد من أن يوضع في خدمة بني الإنسان بالعام ، وكل ما عدا ذلك، ومهما اختلفت التسميات والمبررات ووسائل الدعم فلن تكون سوى مشاريع تجريبية في قسر الثقافات لتبديل جلودها عنوة لتكون على الدوام في خدمة الأطماع السرية للأقوى المهيمن -أبداً- على كتابة التاريخ.
-لا بد من الاعتراف بأن هناك ثقافة جمعية كانت تجمع السوريين تحت سقفها، حتى وإن اختلفت بالتفاصيل الصغيرة، وإذا كان هناك من هفوات تتلمس الحد من تلك الثقافة الجمعية فإن القيمتين المتمثلتين, بتمجيد العمل ، والاعتماد على الذات المنتجة من دون تذمر وبرضى قل مثيلة بين الأمم الأخرى، وأيضاً تمجيد العلم بين مختلف الشرائح الاجتماعية واعتباره أداة مادية ومعنوية وروحية.
والآن .. لابد من السؤال عن مصير هذا الماضي القريب، ولا بد من الاعتراف بأن السنوات العجاف العشر التي مررنا فيها بسبب الحرب على بلدنا قد بدأت بتشكيل ثقافة جديدة، ثقافة بعيدة عن قيمنا الأساسية، ثقافة مقطوعة الرأس تنتظرنا على مفارق دروب قادمة من المجهول، لتقل ما بقي منا إلى مجهول يصعب تفاديه، حتى وإن اعتقدنا بأن هناك في المجهول – أيضاً – بعضاً من الدروب الموازية مازالت تشكل عائقاً في وجه كلّ هذا الدمار.