في المقارنة بين قيمة وقيمة, يجري تناولُ غصن الشجرة الذي يمكن أن تقصفه الرياح وتقطعه عن أمّه الشجرة، ويمكن أن تمارس الوظيفة ذاتها يد الإنسان، بما يعني أوّل وهلة أنّ قوّة يد الإنسان تساوي قوّة الرياح، غير أنّ هذه المقايسة البسيطة ينتابها خلل كبير، إذ تسقط من الحسبان قوّة الشدّ التي يتمتّع بها الغصن، وهي قوّة مختلفة بين غصن وغصن على مختلف الأشجار، بالإضافة إلى وجود تباينات جوهرية تعتري قوة الرياح، وتعتري القوّة المعزوّة إلى يد الإنسان، وعلى ذلك تبرز ضرورة استعمال طرف ثالث تجري على أساسه المقارنة بين قوّة الرياح وقوّة يد الإنسان ، ذلك هو واحد من الأسس العديدة التي استنبتت الحاجة إلى وجود النقود بوصفها قيمة وسيطة للمقارنة بين الشيء والشيء، حسبما أوضح ذلك الفيلسوف الألماني جورج زيمّل في كتابه ذي الطابع الموسوعي (فلسفة النقود) الذي ألّفه في مطلع القرن العشرين، وترجمه إلى العربية هذا العام الدكتور عصام سليمان، ليرفد المكتبة العربية بواحد من أهمّ الأعمال الجليلة التي صنعت مجد الثقافة الإنسانية في كلّ زمان ومكان.
ثمّة سياق طويل منع اطّلاع القرّاء العرب على هذا الكتاب المرجعي، وبعض السياق ماثل في الشعبية الكبيرة التي حازتها الماركسية على وجه العموم؛ ولا ضير في أن تحوز الماركسية ما حازته من انتشار واسع على الصعيدين العربي والعالمي؛ لكنّ المشكلة أنّها ساهمت – ربما من حيث لا يدري معتنقوها ومروّجوها – في حجب أعمال عظيمة عن ساحة اطّلاعنا, مثل هذا الكتاب الذي يجبه القارئ منذ البدء بما يشبه استنكار وجود فلسفة خاصّة بالنقود التي يسمّيها التعبير الشعبي الرائج (وسخَ الجيوب) لكنّ ذلك غير صحيح، فلم تصل البشرية إلى اختراع النقود وجعلها قيمة وسيطة بين الشيء والشيء، إلاّ وفق تطوّر بطيء يكاد أن يستغرق عمر البشرية في الوجود.
ويبين الكتاب الذي يجول في تاريخ العالم وجغرافيته، أفقياً وعموديّاً، كثيراً من الحقائق الماثلة في تاريخ التعامل المعقدّ مع النقود التي تحوّلت من عدّها وسيطاً بين السلعة والسلعة إلى سلعة بذاتها، وتحوّلت أيضاً إلى أداة حاسمة لإنشاء التفاوتات الاجتماعية، قبل أن تقرّ في صلب التفكير الفلسفي بوصفها مقولة من مقولات القيمة.