تصعيد وتوسيع
تتعدد الإستراتيجيات الأمريكية وتختلف الإدارات، ويبقى العداء لروسيا والصين ثابتاً، ربما الاختلاف بدرجة العداوة، لكنها في مجمل الأحوال هي عداوة مطلقة، ومع ذلك فالاختلاف بتلك الإستراتيجيات يكون في توقيتها.
فأن توضع إستراتيجية في توقيت القوة، أمر مختلف تماماً عن وضعها في توقيت الضعف، ففي الأولى تأتي من باب تأكيد تلك القوة، بينما في الثانية تأتي من باب الصلف وإخفاء الضعف والمحافظة على صورة الهيمنة والتفرد.
مناسبة ما سبق، إعلان الولايات المتحدة عن إستراتيجية بحرية من خلال تقرير مشترك للبحرية وخفر السواحل ومشاة البحرية الأمريكية حمل عنوان “الأفضلية في البحر”، والذي جاء لاستهداف ما زعمه التقرير، بـ”التحركات العدوانية” للصين وروسيا للسيطرة على الممرات المائية الدولية الرئيسية، وهذه الإستراتيجية لا ترتبط بالرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب أو المنتخب جو بايدن، بقدر ما ترتبط بإيديولوجيا الولايات المتحدة والأدق “الدولة العميقة”.
الغرض من الإستراتيجية في هذا التوقيت إعادة إيجاد أوراق توازن سياسية عالمية ولاسيما أن الولايات المتحدة فقدت توازنها العالمي لمصلحة قوى أخرى كروسيا والصين، ثم إن من يملك التحكم بالمضائق والممرات البحرية الدولية يملك مفاتيح السيطرة العالمية، وهنا كلمة السر فواشنطن لا تستسيغ فكرة نمو النفوذ الروسي والصيني في الممرات الدولية لأهميتها في إمدادات الطاقة العالمية وهي –أي واشنطن- تريد احتكار السيطرة والنفوذ في المضائق والممرات البحرية لوحدها.
من هنا يمكن فهم “التحرشات” الأمريكية المستمرة بالصين عبر بحر الصين الجنوبي، أو بروسيا قرب حدودها في المحيط المتجمد الشمالي.
ما سمته واشنطن “التحركات العدوانية” إنما هو مصطلح ينطبق عليها تماماً، فأي دولة في موقع القوة كروسيا والصين من البدهي أن تحجز لها مكاناً، بين الأدوار المتعددة في مختلف الميادين وهو دور أثبتت الوقائع أنه سلمي مناهض للدور الأمريكي، بينما الأخير أينما وجد فهو عدواني متسلط.
إن تسخين المياه الدولية ليست بالأمر الجديد وإنما هو أمر قديم متجدد، والعودة الراهنة إليه هي نتيجة فشل أمريكا في مواجهة روسيا والصين في أكثر من صعيد، لتنتقل المواجهة إلى المياه الدولية عبر تشكيل نقاط ارتكاز أمريكية في مواجهة نقاط الارتكاز الصينية في بحر الصين الجنوبي مثلاً وهو حق مشروع وطبيعي لبكين فهو مجالها الحيوي لكن واشنطن لا تعترف بالحقوق، ونقاط الارتكاز الروسية في شبه جزيرة القرم ومضيق كيرتش مثلاً وأيضاً هذا حق طبيعي ومشروع لروسيا.
الرغبة الأمريكية الجامحة في السيطرة ورفضها لتعددية الأقطاب يدفعها دائماً إلى توسيع وتصعيد المواجهة، بينما يواجهها بالمقابل تكريس تلك التعددية عبر تحالفات وتشاركات متكاملة قد تصل لتكون تحالفات إستراتيجية عندما تقتضي الضرورة، فالعالم متغير ولن يقبل بأن تبقى أمريكا مهيمنة ومتفردة بالقرار الدولي.