تمجيد الرماد
ثمة علاقة مدهشة، وهي أيضاً ملتبسة؛ تلك العلاقة التي تحكم بين القصيدة والمتلقي، إذ تفرض العلاقة «الصّحية» بين هذين الطرفين، أن يتطورا معاً، غير أنّ المدهش بينهما؛ أنه كلما تراجع جمهور القصيدة واندثر واندحر، كلما تطورت القصيدة، وزادت الأماسي والمجموعات والمهرجانات الشعرية وتكاثرت، ومن هنا يبدو الالتباس. ذلك أن كل هذا «الحراك الشعري» الذي غالباً ما يتم الاستزادة في تبهيره، كأن يُرافق الأمسية الشعرية الموسيقا والمسرح وحتى الفنون التشكيلية عسى يتم بذلك «القبض» على متلقٍ ما، غير أن كل ذلك الإبهار والتبهير، لم يُحدث لدى المتلقي سوى جلبة عابرة، بل إن الكثيرين شبهوا هذه الأماسي الشعرية بمجالس عزاءٍ شعري.
ليس معنى ما تقدم، أن فنون الإبداع الأخرى هي بحالة تصالحٍ مع هذا المتلقي التائه في دروب آخرها درب القراءة، وإنما نذكر الشعر، لأنه الإبداع الوحيد ربما يُمكن للعرب أن يكونوا قد أنجزوا من خلاله ما يُعتدُّ به أكثر من أي إبداعٍ آخر، وإن كان للسوريين، أي للشعوب القديمة في بلاد الفينيقيين والعراق أن أبدعوا إلى جانب الشعر فنوناً أخرى كالنحت وغيره من فنون، فإن العرب بشكلٍ عام كان ميدانهم الإبداعي ولايزال إلى اليوم؛ هو القصيدة، ولا يغرنك الحديث المتخم بالنشوة عن «ازدهار الرواية».
مع ذلك، ورغم كل هذه القدامة الشعرية، وعمق القصيدة في الذهنية العربية، فقد بقيت الملتقيات التي تُقام لأجلها مصابة بالانغلاق على فئة معينة، ملتقيات ومهرجانات وأمسيات ، تأتي مُباغتة كما الفصول، تعد بالكثير، لكنها غالباً ما تبخس حتى الخيبة، مهرجانات تُعقب بانطفاء سريع للوهج الذي يتجلى خُلبياً، ولم يبق غير تمجيد الرماد.